هناك الكثير من الرجال الذين يسعد الإنسان بسماع اسمهم أو سيرتهم، ويستمتع بمشاهدة مقابلة لهم في صحيفة أو برنامج تلفزيوني، وهناك قلة من هؤلاء نتمنى ولو لمحناهم من بعد أو تواجدنا في محيط قريب منهم، اما اللقاء المباشر فيبقى في كثير من الاحيان مجرد حلم، سيما في واقعنا الفلسطيني.
ورغم الانفتاح الذي تعيشه تركيا، حيث أصبحت اسطنبول مركزاً جامعاً ومستضيفاً لكثير من الشخصيات العربية والإسلامية والعالمية، قابلنا فيها الكثير ممن كنا نهفو للقياهم، إلا أنني لم اتخيل يوماً أن ألتقي رئيس الوزراء الفلسطيني الأستاذ اسماعيل هنية. فالرجل من قيادات حركة مقاومة “محظورة” نوعاً ما وعلى رأس حكومة محاصرة، المرة الوحيدة التي فكر فيها في الخروج من القطاع انتظر طويلاً على معبر رفح وافترش الأرض قبل العودة إليه.
أما الآن، وبعد التغيرات الكثيرة في المنطقة فقد خرج “أبو العبد” في جولة عربية وإقليمية كان من ضمنها تركيا. كان الموعد مع بعض المؤسسات التركية والعربية العاملة في اسطنبول، وكان الحضور في انتظار الضيف الكبير. هل علينا بابتسامته المعهودة وخطواته الواثقة. وبدأ اللقاء……
للمرة الاولى -ربما- أرى مسؤولاً فلسطينيا يتكلم بتلك الثقة وبتلك النفسية، فرغم انه وجه الشكر للموجودين مرات كثيرة، إلا أنه لم يقلها من باب الدونية، أو من باب التوسل أو من باب العجز والحاجة، بل كان يتحدث عن مشروع امة متكاملة، وعن قضية محورية مركزية لكل المسلمين، لكل منا دوره فيها.
ولذلك كان مما حفر في ذاكرتي كلماته الرائعة للموجودين:”لكم علينا الثبات والمقاومة وحماية القدس والمقدسات وعدم التنازل عن الثوابت، ولنا عليكم الدعاء والدعم والنصرة والمساعدة بما تستطيعون”، قالها وهو يبتسم ابتسامة الواثق، ابتسامة القائد.
وكمتكلم فصيح وخطيب مفوه، أثار المشاعر كثيراً في كلمته (كما عادته)، فتارة تدمع العيون وطوراً يعلو التكبير من الحضور، ولم يكن غريباً ساعتها أن يقول احد المتكلمين في مداخلته (أ.د. احمد أغراقتشا، عضو هيئة امناء مؤسسة القدس الدولية): “نحن معكم وسنبقى معكم بقلوبنا وسيوفنا وجيوبنا، وأنتم ابقوا على الثوابت والمقاومة”، فعلا التصفيق.
كان اللقاء في نهاية يوم شاق ومتعب، سبقه زيارت ولقاءات واجتماعات، وانتهى بحدود الحادية عشر ليلاً، ورغم ذلك لم يبخل علي بلقاء متلفز قصير. قابلته هذه المرة كصحافي: نفس الوجه ونفس الابتسامة ونفس التواضع ونفس النفس القريبة للقلب، فلم أتورع أن أخاطبه (قبل التسجيل) ب”الأخ أبي العبد” وليس دولة رئيس الوزراء، دون ان يتغير في قسمات وجهه شيء. قبل اللقاء أعدت على مسامعه جزءاً من قصيدتي “قد مر عام” التي كتبتها في الذكرى الاولى لحرب الفرقان، فسعد بها، ثم تبادلنا الحديث لدقيقة أو دقيقتين بعد التسجيل لم يهمل فيها أن يؤكد على اهمية الكلمة والإعلام وأن الكل “على ثغرة” ولديه واجب يؤديه نحو فلسطين، ولم اهمل ان أقول له ان كل الكلمات وكل وسائل الإعلام لا قيمة لها أبداً إلا بقدر ما تستمده من عظيم التضحيات والمواقف على الأرض.
لم اكن يوماً احلم بذلك ولكني فعلاً وحقيقةً قابلت اسماعيل هنية، وسلمت عليه وقبلت رأسه (وإن كان يستحق أكثر من ذلك)، وأخذت صورة تذكارية معه، وتحدثت إليه بشكل مهني وشخصي: فكانت امسية حفرت في الوجدان والقلب قبل العقل والذاكرة.
الشكر لتركيا التي سمحت بهكذا فرصة، والشكر لأهلنا في مصر أن أزاحوا عن كاهلهم وحدودنا نظام مبارك، والشكر للأستاذ اسماعيل هنية رئيس الوزراء، والشكر موصول لقافلة من الرجال الرجال تصل محطاتهم إلى الشيخ الشهيد أحمد ياسين، الذي تتلمذ في مدرسةٍ الناظرُ فيها رجل اسمه حسن البنا، وقد أحسن البناء.
وكما دعا لي، أدعو له ولكل الأحبة: أن يكون اللقاء في الأقصى في الدنيا، ثم على الحوض يوم القيامة.