أخيراً، وكما كان متوقعاً، اتفق الطرفان التركي و”الإسرائيلي” على إنهاء الأزمة وتطبيع العلاقات بعد ست سنوات كاملة من القطيعة الدبلماسية بينهما، تتويجاً لجولات عديدة من التفاوض المباشر امتدت على مدى أشهر طويلة وتكثفت في الأسابيع الأخيرة.
أسباب التقارب
قدم نتنياهو اعتذاراً هاتفياً لاردوغان عام 2013 بوساطة وضغط أمريكيين، ثم أعلنت دولة الاحتلال استعدادها لتعويض عوائل ضحايا سفينة “مافي مرمرة” بمبلغ 20 مليون دولار عام 2014، بمعنى أن الشرطيين التركيين الأول والثاني قد تأمنا قبل عامين من الآن، وبقي التفاوض قائماً منذ ذلك الوقت على الشرط الثالث وهو كسر الحصار عن قطاع غزة، فما الذي استجد الآن لنضوج الاتفاق؟
من الزاوية التركية، يتعلق الأمر بتوجه عام لتعديل مسار السياسة الخارجية وبتوجه أخص يتعلق بالعلاقة مع تل أبيب. فمن الناحية المبدئية تسود أوساط القيادة التركية قناعة بضرورة العودة بسياسة تركيا الخارجية لبراغماتيتها وواقعيتها التي عرفت بها لسنوات طويلة إلى ما قبل الثورات العربية، في ظل تحديات غير مسبوقة تواجهها في مقدمتها العزلة المفروضة عليها إقليمياً ودولياً، والتوتر مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتطورات الأزمة السورية التي فقدت منذ فترة القدرة على التأثير فيها، والأزمة مع روسيا، والتصعيد العسكري لحزب العمال الكردستاني، وتقدم المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا، وغيرها من التطورات.
أما “الحاجة” للعلاقة مع تل أبيب فتبرز في عدة سياقات أهمها دور الأخيرة المرغوب تركياً في ترطيب الأجواء مع واشنطن لتقليل دعمها المقدم للفصائل الكردية المسلحة في سوريا (تصنفها تركيا منظمات إرهابية) وعلى الجالية اليهودية الفاعلة في روسيا لدعم التقارب بين أنقرة وموسكو، والتعاون الاستخباري في ظل حالة السيولة السائدة في المنطقة منذ فترة، ومحاولة حجز مكان لأنقرة في السيناريوهات التي ترسم لمستقبل المنطقة، فضلاً عن الطموح بلعب دور المستورد والممر للغاز الطبيعي شرقي المتوسط الذي تخطط دولة الاحتلال لتصديره خلال سنوات، وهو ما سيفيد ملف أمن الطاقة التركي إذ ستخفض أنقرة حينها من درجة اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي (%55 حالياً).
بالنسبة لدولة الاحتلال، فيبدو أن التطورات المتسارعة في المنطقة وخصوصاً في المشهد السوري إضافة إلى عن حالة عدم الاستقرار والضبابية العامة في الإقليم قد دفعتها لخطب ود حليفتها القديمة، فضلاً عن الملف الاقتصادي في بعد الطاقة (الغاز الطبيعي) كما سبق.
الاتفاق في الميزان
لا يتوقع أن يواجه الاتفاق الذي وقعه الطرفان أي معيقات من حيث إقرار الكابينت “الإسرائيلي” والبرلمان التركي له، ولذلك يمكن اعتباره في حكم النافذ. ولا شك أن كلا الطرفين يبذل قصارى جهده ليسوّق لرأيه العام أنه خرج منتصراً من جولات التفاوض الماراثونية، حيث تركز أنقرة على أنها “كسرت الحصار” المفروض على قطاع غزة بينما تؤكد تل أبيب على استمرار الحصار البحري والأمني على القطاع.
في ميزان الربح والخسارة المجرد، يمكن القول إن الطرفين رابحان إلى حد ما إذ وجد كل منهما في الجانب الآخر نافذة لكسر الحصار الإقليمي وحليفاً في مختلف قضايا المنطقة، فضلاً عن العائد الاقتصادي الواضح للاتفاقية حيث يأمل الطرفان من خلالها برفع حجم التبادل التجاري بينهما من 4.5 مليار دولار حالياً إلى 6 مليارات دولار قريباً، بينما يمكن لملف الغاز الطبيعي أن يزيده أضعافاً مضاعفة. كما يبدو أن الاتفاق قد شمل بنوداً تتعلق بالتعاون في مجال التصنيع العسكري وتبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون في ملف “مكافحة الإرهاب”، رغم حرص رئيس الوزراء التركي على التأكيد بأن مستوى العلاقات سوف يتحدد لاحقاً من خلال التجربة العملية.
بيد أن تقييم ما هو أبعد من اللحظة الآنية والمصالح الظاهرة يثبت أن دولة الاحتلال هي الرابح الأكبر من الاتفاق على المدى الاستراتيجي، وفي مقابل ذلك تحقق تركيا بعض المكاسب على المديين القريب والمتوسط، فيما يبقى الطرف الفلسطيني الخاسر الأكبر في الاتفاق – باعتباره جزءاً منه ضمنياً وإن لم يشارك في صياغته أو التوقيع عليه أي طرف فلسطيني – إذ أن “الإيجابيات” المتعلقة بإدخال المساعدات ومواد البنى التحتية أو بعض المشاريع التركية في القطاع قليلة وهامشية ومؤقتة ويمكن لدولة الاحتلال إبطاؤها أو تجميدها أو الانقلاب عليها في أي وقت كما هو ديدنها.
ففي الميزان الاستراتيجي، عاد الكيان الإسرائيلي ليضخ الدماء في عروق العلاقات مع دولة إقليمية مسلمة ومؤثرة في قضاياها مثل تركيا، وسيعيد تفعيل منظومات التعاون السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية معها، وسيحاول جهده استدراك ما فعلته سنوات القطيعة الست على مستوى الحاجز النفسي مع الشعب التركي، وسيجد غطاءاً إقليمياً – إسلامياً لسرقته لغاز شرق المتوسط من خلال تعامل تركيا معه (بافتراض نجاح خطته في ذلك)، وسيرفع من أسهم قبول المنطقة له في ظل التهافت العربي على طلب وده أو إقامة العلاقات العلنية والسرية معه، وهو بند مهم يلفت الأنظار إلى خطورة توقيت الاتفاق في ظل التفكك الذي أصاب منظومة العمل العربي الرسمي وإعادة ترسيم حدود العلاقة مع دولة الاحتلال.
هل يعود التحالف الاستراتيجي؟
تمتد العلاقات التركية – “الإسرائيلية” على مدى عشرات السنين إذ كانت تركيا أول دولة مسلمة تعترف بدولة الاحتلال ونسجت معها علاقات متقدمة شهدت عصرها الذهبي في تسعينات القرن الماضي على مختلف المستويات سيما العسكرية والأمنية. واليوم، يعيد الجانبان بناء جسور التعاون الأمني والاستخباري والعسكري في ظل ظروف إقليمية متغيرة، الأمر الذي يطرح السؤال البديهي بقوة: هل يعود التحالف الاستراتيجي بين الطرفين بعد أن زال الجفاء وعادت العلاقات؟
الحقيقة أن إجابة هذا السؤال من الصعوبة بمكان لعدة اعتبارات وسياقات في مقدمتها حالة السيولة والتغيرات المستمرة على مستوى الاصطفافات والتحالفات في المنطقة التي لم تستقر بعد على مشهد محدد منذ 2011، فضلاً عن عدة متغيرات لا يمكن سبر أغوارها ولا الحكم عليها بهذه السرعة أهمها مدى رغبة الطرفين في ذلك. لكن من الناحية النظرية، قد تسير العلاقات بمنحنى إيجابي وسريع بما يؤهل العلاقة لأن تعود لسابق عهدها على المدى البعيد، في ظل الرغبة “الإسرائيلية” الأكيدة بذلك، والعلاقات الوطيدة لتل أبيب مع المؤسسة العسكرية التركية التي زاد مؤخراً نفوذها في القرار السياسي التركي، والبراغماتية الشديدة التي يتمتع بها صانع القرار التركي، وكم المتغيرات والمهددات المشتركة في الإقليم.
لكن من الناحية العملية، لا يبدو هذا السيناريو مرجحاً لعدة أسباب، أهمها:
أولاً، فجوة الثقة الكبيرة بين الطرفين والتي ترجع جذروها لبدايات العدالة والتنمية، ثم تطورت مع محطات التأزم في العلاقة مثل حادثة دافوس والاعتداء على سفينة “مافي مرمرة”، لتصل لذروتها في سنوات القطيعة، وكان من تمظهراتها الشماتة العلنية لوزراء في الحكومة “الإسرائيلية” بتراجع العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015 مثلاً في ظل استمرار مفاوضات التقارب.
ثانياً، تركيا اليوم ليست تركيا تسعينات القرن الماضي، لا لجهة الخلفية الفكرية والسياسية للحزب الحاكم، ولا لجهة العلاقات المدنية – العسكرية فيها، ولا على مستوى الحاجز النفسي لدى الشعب التركي إزاء تل أبيب خاصة بعد سقوط شهداء على يد مؤسستها العسكرية وعلى مدى ست سنوات من التصعيد السياسي والإعلامي ضدها، ولا من زاوية الحاجة الملحة لدولة الاحتلال في تطوير الأسلحة وتدريب الطيارين والتصنيع الدفاعي وغيرها من المجالات بعد أن قطعت أنقرة أشواطاً كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية في هذه المجالات سعياً نحو الاكتفاء الذاتي.
ثالثاً، رغم التقارب المفترض بين الجانبين واتفاق المصالحة بينهما وعدد من المهددات المشتركة وفق تقييم صناع القرار فيهما، إلا أن الإطار الناظم للسياسة الخارجية لكل منهما يكاد يتضاد مع الآخر أو على الأقل يتقاطع معه، من قبيل شبكة علاقات تركيا مع الدول الإقليمية والقوى المختلفة في العالم العربي وفي مقدمتها الحركات الإسلامية وموقفها العام من مختلف قضايا المنطقة.
رابعاً، حالة عدم الاستقرار في المنطقة ككل، وكثرة التقلبات وتبدل أولويات الدول المختلفة فيها، وعدم ثبات الوضع الداخلي لعدد من الدول المؤثرة فيها بما لا يخدم فكرة التحالفات الدائمة أو الشراكات الراسخة طويلة المدى بين أي طرفين بشكل عام وتركيا ودولة الاحتلال على وجه الخصوص.
خامساً، أن المصالحة تمت في الغالب تحت عنوان “اتفاق الضرورة” بالنسبة للطرفين، وبالتالي يتوقع للعلاقات أن تسير وفق الحد الأدنى من التواصل الدبلماسي والتعاون التجاري، على الأقل في الفترة الأولى.
سادساً، سيعتمد تطور العلاقات بين الجانبين إلى حد كبير على أداء الحكومة “الإسرائيلية” وسياساتها ضد الفلسطينيين، وهي سياسات ستستجلب إدانات تركية في حال الانتهاكات المتوقعة على صعيد العدوان على غزة أو اقتحامات المسجد الأقصى وغيرها، وهي توترات ستساهم في فرملة تطور العلاقات الثنائية بشكل كبير.
في المحصلة، ثمة عوامل كثيرة – ذاتية وبينية وإقليمية ودولية – دفعت الجانبين التركي و”الإسرائيلي” للتوافق على إنهاء حالة القطيعة الدبلماسية بينهما، ويتوقع لهذه المصالحة أن تسير بخطى بطيئة في المرحلة الأولى التي ستكون فترة اختبار نوايا وسياسات من قبل الطرفين. لكن منحى استمرار العلاقة ومسارها على المديين المتوسط والبعيد سيعتمدان بشكل كبير على الوضع الداخلي في كليهما إضافة إلى المصالح المتوخاة والمهددات المشتركة والملفات ذات الاهتمام المشترك والوضع العام في المنطقة، وهو ما يعني أن بقاء العلاقة على حالها أو تقدمها أو تراجعها ممكن نظرياً وعملياً تبعاً لإرادة الطرفين ولتطورات المحيط العربي، الذي يملك – ولو نظرياً – إمكانية إبطاء العلاقة أو تجميدها أو حتى عكسها على المدى البعيد على الأقل.