بعد جلسة مطولة استمرت لساعات، اعترف مجلس العموم البريطاني (البرلمان) بعد اقتراع رمزي بدولة فلسطين، بأغلبية 274 صوتاً في مقابل 12 صوتاً. وقد حظي هذا القرار غير الملزم للحكومة البريطانية باهتمام فلسطيني وعربي كبير من الناحيتين السياسية والإعلامية، فهل تستحق الخطوة فعلاً كل هذا الاحتفاء؟
لا بد من التقرير ابتداءً أن كل عمل إيجابي مهما صغر أو كبر يجب أن يكون محل اهتمام وتقدير، كما أن العمل السياسي عبارة عن عملية مراكمة للإنجازات البسيطة وصولاً إلى الأهداف الكبيرة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بساحة كانت وما زالت داعمة لدولة الاحتلال، ويعتبر أي اختراق فيها لصالح القضية الفلسطينية إنجازاً ذا شأن.
بهذا المعنى، يصبح التصويت – وإن كان رمزياً – مهماً كنتيجة لعمل دؤوب ومستمر منذ سنوات لشخصيات ومؤسسات فلسطينية وبريطانية داعمة للحق الفلسطيني، وأيضاً كاستشراف لمدى تغير المزاج الغربي تجاه دولة الكيان والقضية الفلسطينية ككل، وقد رأينا بعض تمظهرات هذا التغير خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، فكيف إن كنا نتحدث عن المستوى السياسي المنتخب عن الشعب البريطاني؟؟!.
لكن، من ناحية أخرى، ليس من المنطقي المبالغة في تقدير الخطوة واعتبارها إنجازاً دبلوماسياً واضحاً لصالح القصية الفلسطينية لاعتبارات كثيرة، أهمها:
أولاً، رغم صدور القرار عن البرلمان البريطاني إلا أنه غير ملزم للحكومة، ويحمل فقط صيغة رمزية لا أكثر، بحيث يمكن اعتباره “توصية” للحكومة الحالية أو القادمة، التي تملك القرار النهائي والفاصل في الأمر من الناحيتين السياسية والقانونية.
ثانياً، لا تبدو الحكومة البريطانية سعيدة أو مرتاحة للتصويت بدلالة تغيب كاميرون وكل وزراء حكومته عنه، وبدلالة مقاطعة حزب المحافظين للتصويت، وبدلالة استباق المتحدث باسم الحكومة التصويت بالقول إنه “لن يغير” من موقف الحكومة إزاء القضية الفلسطينية، حيث إن الاعتراف بالدول من صلاحيات الحكومة لا البرلمان.
ثالثاً، خلو القرار من أي إشارة إلى مسؤولية بريطانيا التاريخية عن النكبة الفلسطينية أو التطرق إلى الاعتذار أو التعويض فضلاً عن التصحيح. فالاقتراح الذي تقدم به النائب عن حزب العمال المعارض ورئيس مجموعة “أصدقاء فلسطين” فيه غراهام موريس تضمن سؤالاً وحيداً موجهاً لأعضاء مجلس العموم، مفاده “هل تعتقدون أنه يجب على الحكومة الاعتراف بدولة فلسطين”؟
رابعاً، التعديل الذي أدخل على صيغة المقترح ليتناسب أكثر مع سياسة الحكومة البريطانية المتعلقة بعملية السلام، والذي حصر الموافقة على دولة فلسطينية تعلن “كنتيجة للمفاوضات”.
خامساً، أن التصويت يتعلق بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 ولا علاقة له بأرض فلسطين التاريخية، وهو بهذا المعنى العام ينتقص من الحق الفلسطيني، ويتنكر للمظلومية الفلسطينية التاريخية، وأبعد ما يكون عن انتقاد أو مراجعة وعد بلفور الذي لحظ إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين “دون الانتقاص من حقوق الأقليات” الإثنية والدينية هناك.
سادساً، إن متابعة هكذا خطوة واستثمارها يحتاج قراراً سياسياً ومؤسسات رسمية، كالسلطة وحكومتها أو جامعة الدول العربية أو غيرها من المؤسسات الدولية. وللأسف الشديد فإن تجربة الشعب الفلسطيني مع أداء هذه المؤسسات لا يرفع من سقف التوقعات، وما إعلان دولة فلسطين في الأمم المتحدة وتقرير غولدستون منا ببعيد.
ورغم كل هذه السلبيات في القرار، إلا أنه يحمل في طياته آفاقاً مستقبلية رحبة تشير إليها الإيجابيات التالية:
أولاً، يعتبر التصويت/القرار أهم قرار يصدر حتى الآن من أي من المؤسسات الدستورية البريطانية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
ثانياً، تنبع أهمية القرار من صدوره من البرلمان البريطاني تحديداً، بتمثيله للدولة التي تتحمل وزر وعد بلفور وما ترتب عليه قانونياً وسياسياً بعد ذلك من نكبة للشعب الفلسطيني، وعليه فسيكون هذا القرار نقطة دعم وتحفيز لجهود الضغط على بريطانيا للاعتذار عن الوعد وانعكاساته، في إطار حملة جمع التواقيع في بريطانيا.
ثالثاً، سيكون القرار عنصر ضغط أخلاقي – وإن لم يكن سياسياً – على الحكومة الحالية أو القادمة، باعتبار صدوره عن السلطة التشريعية الممثلة للشعب.
رابعاً، يحمل القرار إمكانية الاعتراف الرسمي المستقبلي من بريطانيا في حال تغيرت رئاسة الحكومة في أي انتخابات قادمة من حزب المحافظين إلى حزب العمال، الذي قدم مشروع القرار وصوت لصالحه.
خامساً، قد يشجع القرار عدداً من الدول الأوروبية على تقليد الخطوة البريطانية، سيما بعد الدفعة المعنوية التي أعطتها تصريحات الحكومة السويدية بنيتها الاعتراف بدولة فلسطين، وربما هذا ما أدى – إلى جانب العوامل الأخرى المذكورة – إلى ردة الفعل الصهيونية الغاضبة ضد القرار.
سادساً، الأهم من القرار وصياغته ونسبة التصويت لصالحه كانت النقاشات التي دارت بين نواب مجلس العموم وعلى ألسنتهم، والتي حمل أغلبها نبرة جديدة في انتقاد السياسات الصهيونية والانحياز للحق الفلسطيني (من وجهة النظر البريطانية طبعاً)، وهو ما يعتبر مؤشراً واضحاً على تبدل الانطباع بل والوعي الجمعي – الشعبي والرسمي – في القارة العجوز إزاء القضية الفلسطينية ودولة الاحتلال.
أخيراً، كما كل خطوة سياسية، تكتنف القرارَ المذكور سلبياتٌ عدة تحد من أهميته، كما يحمل بين جنباته آفاقاً مستقبلية تشجع على زيادة العمل والجهد في القارة الأوروبية وتؤكد على معنى الإمكانية والأمل، ولكن – مرة أخرى – دون المبالغة في التقييم والتفسير، ففي النهاية يتعلق الأمر برؤية الغرب للحق الفلسطيني وليس الحق الفلسطيني بذاته، وهو ما يتعارض في نهاية المطاف مع حقوقنا وثوابتنا. والأمر كذلك، تنبع أهمية التصويت بشكله الحالي وسقفه المحدد من إشاراته ودلالاته أكثر منه بذاته.