حين وقعت إيران اتفاق جنيف مع مجموعة (5+1)، كنتُ قد تنبأت بتغير كبير في سياسات الغرب تجاه المنطقة، بتهميش دور تركيا وتقوية إيران على حسابها، وربما إرجاع الاخيرة لدور “شرطي المنطقة” الذي كان يلعبه الشاه سابقاً، بعد أن اظهرت تركيا جنوحاً نحو بعض الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب (سقفها المرتفع في سوريا، موقفها من الانقلاب في مصر، صفقة السلاح مع الصين)، ومن خلال إثبات إيران قوتها ومرونتها في آن معاً.
على وقع هذا الاتفاق اختفى مباشرة كل الكلام عن ضرب إيران، وعن أي عملية عسكرية في سوريا إثر استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، وسار المجتمع الدولي نحو مؤتمر جنيف 2، مما أظهر تركيا وحيدة وضعيفة في ذلك الوقت. تحركت الدبلوماسية التركية بنشاط ملحوظ نحو العراق وإيران، وأبرمت اتفاقات اقتصادية وتفهمات سياسية معهما، وتعاملت مع الحل السياسي في سوريا، مما أعاد لها بعض التوازن في المعادلة الإقليمية، وحفظ لها دورها.
هكذا، وجدت السياسة الخارجية التركية أن نظرياتها السابقة عن “العمق الاستيراتيجي” و”تصفير المشاكل” لم تعد مناسبة تماماً للواقع المتغير في الشرق الأوسط، ووجدت نفسها مقحَمة في قضايا الإقليم المشتعلة رغماً عنها، لكن هذا لم يكن أكبر أو كل مشاكل تركيا.
فالداخل التركي كان مفتوحاً على احتمالات وسيناريوهات متعددة، سارت على شكل “حملات” متباعدة الأزمان متناسقة الأداء، من أحداث حديقة “جزي بارك” إلى اتهامات الفساد، إلى تحريك الشارع العلوي، وصولاً إلى محاولات إفشال عملية السلام مع حزبي العمال الكردستاني، والتي تتضمن حلولاً سياسية ودستورية سلمية للقضية الكردية.
هنا، اتفقنا أم لم نتفق مع سياسات الحكومة التركية الداخلية والخارجية، يجب أن نعترف أن التعامل الغربي مع تركيا – سياسياً وإعلامياً – كان منحازاً ويتعمد التهويل الإحراج والضغط، الأمر الذي أعطى شيئاً من المصداقية لادعاءات رئيس الوزراء التركي بالمؤامرة والاستهداف.
والآن، ربما نكون أمام حلقة جديدة من هذه السلسلة من الأحداث، حين هاجم أفراد من الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) القنصلية التركية في الموصل واختطفوا أفراد حماية السفارة وبعض ذويهم. وهنا يطرح السؤال نفسه: لم؟ إن كانت “داعش” تخوض ثورة أو عصياناً مسلحاً ضد حكومة المالكي المركزية، فما ذنب الموظفين الأتراك؟ ولماذا تم خطفهم والمساومة على إطلاق سراحهم بالتزامن مع غليان الموقف وخروجه عن السيطرة في العراق؟ سيما بعد اعتراف سياسيين إيرانيين بدخولهم العسكري في العراق لمحاربة “داعش”، وبعد زيارة شبه سرية للرئيس الإيراني إلى تركيا لم يرشح الكثير عن مخرجاتها ونتائجها ؟؟!!!
لسنا في وارد تضخيم نظرية المؤامرة والاستسلام لها، لكننا أمام مشهد يصعب تصديق ظواهره الخارجية البسيطة دون فهم أعمق لجيوبوليتيك المنطقة وتشابكاتها الإقليمية والدولية وفق المشهد الحالي. إن تسارع الأحداث بشكل ملحوظ لا يجب أن يمنعنا من التمهل في الحكم على الأمور، ذلك أن إحدى إشارات التداخل هو تزامن أحداث مهمة وكبيرة في سياق زمني محدود: جمود الأزمة السورية، الحراك في العراق، الانقلاب في مصر، تدخل إيران العسكري، المصالحة الفلسطينية (تراجع حماس)، والانتخابات الرئاسية التركية الوشيكة.
فهل تستطيع تركيا أن تستمر في سياسة الحياد الإيجابي وتجنب الانزلاق إلى الاشتباك العسكري في أو مع دول الجوار؟ أم إن التطورات الكبيرة والسريعة أكبر من قدرة أنقرة على الصبر والتعقل وامتصاص الصدمة والإدارة الهادئة للأمور، بشكل يجعلها أمام خطر مواجهات عسكرية تستنزف قدرتها التنموية وتذكي انقساماتها الداخلية، بما يؤدي إلى تحجيم الدور التركي المتنامي في المنطقة؟؟ بكل شفافية، لا أعتقد أننا نملك جواباً شافياً، غير أن الزمن – فيما نظن – كفيل ببعض الإجابة.