هل فشل فعلاً مشروع تهجير أهل غزة؟
TRT عربي
18 تشرين الثاني/نوفمبر 2023
مع الصدمة التي تلقتها المؤسسة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، كانت التقديرات الأولية لدى هذه الأخيرة والحكومة على حد سواء أن كل الاستراتيجيات التي كانت متبعة سابقاً مع قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية وخصوصاً حركة حماس لم تنفع.
لسنوات طويلة، تعاملت حكومات الاحتلال مع غزة وفق عدة استراتيجيات من أهمها في المجال العسكري ما اصطلح على تسميته “جز العشب” أي شن هجوم على قطاع غزة كل عدة سنوات، بحيث يحصد ويقوض ما أنشأته المقاومة الفلسطينية من بنية تحتية وراكمته من قوة ولا يسمح لها بالتوسع والتطوير حتى لا تتخطى حداً معيناً. كما أن هذه الاستراتيجيات كانت تدعم فكرة الردع التي تعمل عليها المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية”، بحيث تكون الخسائر البشرية والاقتصادية وأضرار البنى التحتية رادعاً للفلسطينيين عن المقاومة.
في المقابل، راهنت الحكومات “الإسرائيلية” المتتابعة على أن إدارة حركة حماس لقطاع غزة ستجعلها أقل رغبة في المواجهة وأكثر حرصاً على الهدوء وتلبية احتياجات السكان، وعلى أن إدخال المال لغزة عبر قطر وبموافقة الاحتلال يشجع على هذا المسار ويصعّب من فكرة الدخول في مواجهات مسلحة.
وقد كانت جولات القتال بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي مؤخراً، والتي قدمت خلالها حماس دعماً محدوداً – أقله في العلن – للأخيرة مؤشراً بالنسبة للاحتلال على نجاح كل ما سبق، وهو ما ثبت خطؤه بالكلية في معركة طوفان الأقصى.
دفع ذلك حكومة نتنياهو للبحث عن بدائل للتعامل مع قطاع غزة وفصائل المقاومة فيه، ولم يكن لديهم فيما يبدو خطة واضح للتعامل مع الوضع المستجد والصدمة الحاصلة، لكن الأفكار المطروحة دارت في فلك ضرورة اتخاذ إجراءات جذرية وحاسمة تجاه القطاع وحماس. وكان أحد أبرز الاقتراحات في بدايات العدوان، إضافة لاجتثاث حركة حماس، ضرورة إفراغ القطاع من سكانه نحو سيناء في مصر، وهو ما ورد في تقرير لوزارة الاستخبارات ذات الطبيعة الاستشارية.
تكرر ذلك في تصريحات الحكومة وكذلك على لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين في مقدمتهم وزير الخارجية أنطوني بلينكن الذي التقى رؤساء عدة دول عربية للترويج لهذه الفكرة، وسُرّب وقتها أنه واجه معارضة شديدة للفكرة لا سيما من مصر التي عدَّت الأمر تهديداً لأمنها القومي.
لاحقاً اختفت الفكرة من التداول الإعلامي إلى حد كبير، تحت وطأة صمود المقاومة وثبات الغزيين في قطاعهم ورفض الدول المجاورة وخصوصاً مصر، فتردد لدى الكثيرين أن المشروع قد فشل ورفع من التداول ولم يعد قائماً، وأن الولايات المتحدة ومعها “إسرائيل” يبحثان عن خيارات أخرى. فهل هذا فعلاً ما حصل؟
تقديرنا أن التداول الإعلامي تراجع مؤقتاً فقط وتحت ضغط الرأي العام المتزايد ضد الدعم الأمريكي غير المسبوق للاحتلال وحربه على غزة، إلا أنه يُلغَ تماماً من جدول الأعمال إذ هو يحقق مصلحة بالنسبة للاحتلال، وهو كذلك ما يؤكده الواقع والتطورات الميدانية.
تتمثل مصالح الاحتلال في زيادة الضغط على المقاومة الفلسطينية من خلال حاضنتها الشعبية، والاستفراد بالمقاومة أكثر في حال خروج المدنيين من الميدان، وتخفيف الضغوط الدولية بسبب المجازر المرتكبة بحق المدنيين، وإعداد الأرضية لإعادة تشكيل قطاع غزة فيما يتعلق بالمشاريع المستقبلية طويلة الأمد بعد المعركة.
وفيما يتعلق بالميدان، فقد ادعت حكومة الحرب “الإسرائيلية” التي تشكلت بعد أيام من بدء العدوان بأنها تستهدف فقط شمال القطاع ودعت السكان لمغادرته نحو الجنوب الذي ادعت أنه “منطقة آمنة”. وعلى هذا الأساس سارت خطتها العسكرية على الأرض، فركزت مع شمال القطاع أكثر وعملت على فصله عن الجنوب، وضغطت بكل قوة لإخراج السكان نحو الجنوب ضاربة عرض الحائط كل المناشدات الدولية وقبلها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحتى أعراف الحروب.
بيد أن الواقع يكذب هذه الادعاءات بشكل واضح. فالجنوب كذلك مستهدف بشكل كبير، حيث قُصفت كل مناطق قطاع غزة وإن بدرجات متفاوتة، وسقط شهداء وجرحى فيها جميعاً، بل إن الكثير من سكان الشمال قضوا بعد انتقالهم لأقربائهم في الجنوب وبعضهم استهدف خلال رحلته نحوه.
وعليه، يمكن القول إن الخطة العسكرية للاحتلال تقضي بالتركيز حالياً على شمال القطاع، لأسباب عسكرية وحتى تضمن انتقال أكبر عدد ممكن من السكان نحو جنوبه، ومما يدعم هذا التوجه الحصار المحكم على الشمال ومنع دخول أي مساعدات نحوه والتركيز على أن أي مواد إغاثية ستدخل للقطاع ستبقى محصورة في الجنوب فقط. كما يمكن ملاحظة أن الجيش “الإسرائيلي” استهدف ويستهدف كل مقومات الحياة، من مدنيين وبنى تحتية ومدارس ومراكز إيواء، وحتى المساجد والكنائس والمستشفيات، كرسالة واضحة بأنه لا مكان آمن أو ذو حصانة ضد الاعتداءات وأن الحل الوحيد يكمن في الرحيل بعد تحويل المنطقة لمكان غير صالح ولا قابل للحياة.
ونتوقع، بعد أن تصل العمليات العسكرية إلى مرحلة معينة في الشمال، أن يكون هناك مرحلة ثانية تركز فيها الآلة العسكرية “الإسرائيلية” على الجنوب أكثر وتعمد من خلالها لإيقاع أكبر عدد ممكن من المجازر لدفع الناس نحو البحث عن مخرج، والذي سيكون حينها معبر رفح فقط.
أخيراً، ثمة من يراهن على استمرار رفض مصر ودول أخرى لخيار التهجير كإحدى أهم ضمانات عدم حصوله. بينما يمكن أن يحصل رغماً عن هذه المواقف حتى ولو استمرت، تحت ضغط القصف غير المسبوق وجرائم الحرب المتكررة والحصار الخانق.
أكثر من ذلك، ليس من الحكمة الرهان على ثبات موقف النظام المصري من الأمر على المدى البعيد، لا سيما وأن الأوضاع الاقتصادية في مصر تجعله عرضة لضغوط أمريكية في هذا الاتجاه مع “جزرة” سد الديون و/أو تسهيل الاقتراض وغيرها من المحفزات المالية والاقتصادية. حتى النظرة للأمر على أنها تهديد للأمن القومي المصري لا تبدو ضمانة كافية، في ظل تجارب سابقة مثل سد النهضة وجزيرتي تيران وصنافر، وكذلك في ظل السيطرة الكاملة للسيسي على مؤسسات الدولة وغياب أي رأي عام ضاغط ومجتمع مدني ناشط.
وعليه، ختاماً، تراجع الحديث عن مشروع تهجير سكان غزة في العلن وفي الإعلام مؤقتاً فقط لتخفيف الضغوط عن مختلف الأطراف داخلياً وخارجياً، إلا أن الوقائع على الأرض تقول بانه ما زال مطروحاً على الطاولة كخيار أساسي، وربما ما زال يُبحث وراء الأبواب المغلقة. وبالتالي فهو سيناريو ما زال قابلاً للتطبيق بالنسبة لتل أبيب وواشنطن وربما عواصم أخرى، بانتظار الوقت المناسب والظروف الأمثل لتحقيقه فعلياً وإن لم يعلن عنه بالضرورة رسمياً.