هل ستبقى تركيا في أفغانستان؟
منذ قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة، بات الملف الأفغاني العنوان الأبرز للعلاقات التركية – الأمريكية، بعد إعلان الرئيس التركي استعداد بلاده لإبقاء قواتها في العاصمة كابول لتأمين وإدارة مطارها الدولي.
الناتو وأفغانستان
بعد عشرين سنة من حربها عليها بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وافقت الولايات المتحدة الأمريكية على سحب قواتها من أفغانستان إثر اتفاق أبرمته مع حركة طالبان العام الفائت.
ذلك أنه بعد مدة طويلة من المفاوضات المتعثرة، أبرمت واشنطن مع طالبان اتفاقاً في الـ 29 من شباط/فبراير 2020 وصف بالتاريخي، ينص على انسحاب القوات الأمريكية من البلاد خلال مدة 14 شهراً، وتبادل الأسرى وإجراءات لبناء الثقة بين الجانبين، إضافة لإطلاق حوار ومفاوضات بين طالبان والحكومة الأفغانية.
بعد خسارة ترمب وفوز بايدن بالرئاسة، لم يتنصل الأخير من الاتفاق، لكنه رأى أن الجدول الزمني للانسحاب ليس عملياً، واعداً بإتمامه في الذكرى السنوية للهجمات أي في الـ 11 من أيلول/سبتمبر المقبل.
تريد واشنطن الخروج من أفغانستان لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بنتائج تدخلها فيها وأولويات سياستها الخارجية وبعض الديناميات الداخلية، لكنها لا ترغب بالتأكيد بخسارتها كلياً أو فقد الدور والتأثير فيها تماماً، ما يُحيج إلى طرف ما يقوم بهذه المهمة، ويبدو أن تركيا كانت الخيار الأنسب. ذلك أن الأفغان – بما فيهم طالبان نفسها – لا ينظرون لتركيا كما ينظرون للولايات المتحدة. فهي لا عدوة ولا خصمة بالنسبة لهم، من جهة لكونها دولة مسلمة ومن جهة ثانية لأن الأدوار التي لعبتها في أفغانستان طوال السنوات الماضية كانت بعيدة عن المهام القتالية.
ومن هذا الباب، فقد اختيرت إسطنبول لاستكمال مسار “مفاوضات السلام” بين طالبان والحكومة الأفغانية واستضافة مؤتمر بهذا الخصوص ترعاه تركيا بالمشاركة مع قطر والأمم المتحدة، في نيسان/أبريل الفائت. إلا أن الخارجية التركية أعلنت عن تأجيل المؤتمر لاستكمال ترتيبات الوفود المشاركة في ظل حديث عن رفض طالبان المشاركة.
في هذا الإطار، تُوْلي الولايات المتحدة وحلف الناتو أهمية خاصة لمطار حميد كرزاي الدولي في كابول، بعّدِّه بوابة أفغانستان على الخارج، وبما يجعله صمام الأمان للبعثات الدبلوماسية والهيئات الدولية المقيمة على الأراضي الأفغانية والمترددة عليها، لا سيما في ظل التطورات الميدانية المتفاقمة مؤخراً والتي دفعت عدداً من الدول لإغلاق ممثلياتها هناك.
الرؤية التركية
في تشرين الأول/أكتوبر 2001، وافق البرلمان التركي على إرسال الحكومة قوات إلى أفغانستان، ومع قرار مجلس الأمن إنشاء قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن “إيساف” في أفغانستان في كانون الأول/ديسمبر، شاركت تركيا في المهمة 260 جندياً ضمن قوات حلف الناتو.
وعلى مدى سنوات طويلة، ولا سيما بعد الانتقال إلى مهمة “الدعم الحازم” في 2005، اضطلعت القوات التركية بمهمات غير قتالية تركز على التدريب وإدارة بعض المشاريع، وضمان الأمن في محيط كابول، إضافة لوجودها في مطار حميد كرزاي وإدارة الجزء العسكري منه في السنوات الست الأخيرة، حيث ما زالت تحتفظ هناك بحوالي 500 جندي.
بعد لقائه مع بايدن منتصف الشهر الفائت، أبدى أردوغان موافقة بلاده المبدئية على إبقاء قواتها في كابول لإدارة وتأمين المطار، مؤكداً على أنها تحتاج دعماً من واشنطن في هذا الإطار. وهو الأمر الذي فصّله لاحقاً وزير الدفاع خلوصي أكار كدعم “سياسي ولوجستي ومالي”، بما يشمل تغطية نفقات إدارة المطار وترك القوات الأمريكية بعض معداتها بعد الانسحاب.
الرغبة الأمريكية التقت فيما يبدو برغبة تركية مماثلة ولكن مختلفة المنطلقات والدوافع، حيث يمثل بقاء قواتها هناك دوراً مستمراً لها في منطقة ذات أهمية استثنائية تتخطى حدود أفغانستان، وبما له علاقة بشرق آسيا وآسيا الوسطى من جهة والتنافس مع قوى عالمية وإقليمية مثل الصين وروسيا وإيران، وكذلك على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة.
ذلك أن خطاب واشنطن تجاه أنقرة تبدل بشكل ملحوظ بعد قمة الناتو الأخيرة التي ركزت على ملف أفغانستان من بين ملفات خلافية كثيرة بين الجانبين، حتى إن صحيفة مثل وول ستريت جورنال رجحت أن تستخدم أنقرة هذا الملف ورقة تفاوضية مع واشنطن لتحصيل تنازلات أو مرونة منها في ملفات أخرى في مقدمتها صفقة إس400 الروسية.
وتتلخص الرؤية التركية لفكرة بقاء قوات لها في أفغانستان بثلاثة ركائز أساسية:
الأولى، ألا يكون وجوداً تركياً وإنما دولياً تنوب عنه أو تديره تركيا، بما يشكل غطاءً سياسياً دولياً أو على أقل تقدير أطلسياً لها.
الثانية، ألا تبقى أنقرة هناك بمفردها وإنما مع شركاء آخرين، وقد حددت ترجيحاتها بالباكستان والمجر، الأولى بسبب جوارها ونفوذها ودورها في أفغانستان، والثانية رمزياً كدولة أوروبية وعضو في حلف الناتو، وليس لها بالضرورة نفس الانطباع السلبي لدى الأفغان/طالبان مثل الويلات المتحدة وبعض الدول الأخرى، فضلاً عن أنها – مثل باكستان – تجمعها بتركيا علاقات جيدة مؤخراً.
الثالثة، أن تضمن سلامة قواتها في كابول، وهو ما يمر عبر طريقين، التزام الناتو بتوفير الدعم اللازم لا سيما في حال تدهورت الأوضاع الميدانية، وقبول طالبان بذلك أو غض الطرف عنه على أقل تقدير، ولعله العامل الأثقل في ميزان صناعة القرار التركي، وهو ما يفسر قول أردوغان إنه “لا يمكن تجاهل حقيقة طالبان” في أفغانستان.
تحديات وعقبات
في الخلاصة، ثمة رغبة أوّلية لدى أنقرة بالبقاء في أفغانستان لإدارة مطار كابول وحمايته، ولكن القرار النهائي سيتعلق بثلاثة عوامل أساسية، وهي رد واشنطن على الطلبات/الشروط التركية، والوضع الميداني وموقف طالبان، وكذلك المعارضة التركية الداخلية.
فيما يتعلق برد الولايات المتحدة المنتظر، ليس من المتوقع أن ترفض الأخيرة بالكلّية ما تعدُّه أنقرة شروطاً ضرورية لبقاء قواتها وضمان أمنها، ولكن قد يكون الأهم منه شروطاً مفترضة غير معلنة متعلقة بثمن ما في ملفات أخرى وخصوصاً إس400، وإن كان رفض واشنطن إبداء مرونة في هذا الأمر لن يؤدي لوحده لرفض تركيا.
ورغم الصلاحيات الواسعة التي يمتلكها الرئيس التركي في بلاده في ظل النظام الرئاسي وضعف المعارضة عموماً، إلا أن رفض أحزاب وازنة للأمر يدفع الرئاسة لبذل كامل الجهد في محاولة تأمين الجنود وعدم تعرضهم للأذى، لسحب الذريعة من المعارضة. ذلك أن معظم أحزاب المعارضة أيدت الحكومة سابقاً في إرسال قوات إلى سوريا والعراق وليبيا من باب الأمن القومي، وأيدت دعم أذربيجان لأسباب قومية وجيوسياسية، إلا أنها لا تعدُّ البقاء في أفغانستان ضرورة للأمن القومي للبلاد.
ويبقى العامل الأهم في نظرنا هو موقف طالبان النهائي من بقاء قوات تركية في أفغانستان، لا سيما بعد تقدمها الميداني الملحوظ مؤخراً، فضلاً عن أن حالة عدم الاستقرار ليست مشجعة لأي طرف للبقاء على الأراضي الأفغانية. فقد صدرت عن طالبان مواقف رافضة لذلك، لكن تصريحات المتحدث باسمها محمد نعيم أشارت لتركيا بإيجابية وعبّرت عن رغبتها في إقامة علاقات طيبة مع تركيا مستقبلاً.
ولذلك، من المتوقع أن تبذل أنقرة وسعها في محاولة تليين موقف طالبان وإقناعها أن بقاءها هناك ليس لتنفيذ أجندة أمريكية أو أطلسية وإنما “لدعم استقرار أفغانستان ومساعدة شعبها” كما يقول المسؤولون الأتراك. ويعدُّ المؤتمر الذي أجِّلَ سابقاً إحدى أدوات أنقرة في التواصل مع طالبان والتوسط بينها وبين حكومة كابول وكذلك لمحاولة إقناعها بموقف أنقرة، فضلاً عن دعم أطراف ثالثة صديقة لها علاقات مع الحركة مثل قطر والباكستان.
وعليه، فإن المرجّح أن تستطيع تركيا التوصل لمعادلة تبقي من خلالها قوات لها في مطار كابول، لما يمثله ذلك من مصالح لها، لا سيما إذا ما استطاعت تشكيل شبكة حماية سياسية وميدانية لها من خلال علاقاتها مع الولايات المتحدة والناتو من جهة وضمان موافقة ضمنية من طالبان من جهة أخرى، وإلا قد لا تتحول الموافقة التركية المبدئية إلى واقع عملي بعد انسحاب القوات الأمريكية.