قبل حوالي شهرين من الآن هزت تركيا قضية قضائية-إعلامية-سياسية اعتبرت في كثير من المحافل من أكبر الضربات التي تلقتها حكومة العدالة والتنمية خلال 12 عاماً من حكمها، وصلت بالبعض للتبشير بنهاية عهد اردوغان وصحبه وبالبعض الآخر للتحذير من نفق مظلم ستعود إليه تركيا بعد كل ما حققته من تنمية وتقدم داخلياً وخارجياً.
ما فاقم الأمر وزاد في خطورته أن السياسة الخارجية التركية كانت قد تلقت ضربات عدة، بعد تحول الموقف الدولي إزاء القضية السورية وترك تركيا وحيدة في موقفها، وعلى إثر اتفاق جنيف بين إيران والدول 5+1 الذي أنذر بولادة عهد جديد في المنطقة قد يحمل نذر الأفول لدور تركيا الرئيس فيها.
وبينما ضاقت الحلقات عليها داخلياً وخارجياً، وكثرت التكهنات بتراجع تكتيكي أو استيراتيجي على مستوى الشعبية في الداخل والمواقف في الخارج، تبدو أنقرة اليوم وقد التقطت أنفاسها واستعادت المبادرة في الساحتين.
قضية الفساد والرشوة
لم تكن “حملة” الفساد المالي والرشاوى التي بدأت في الـ 17 من كانون أول الماضي قضية عادية أو أزمة عابرة يمكن للعدالة والتنمية أن يتخطاها دون أن تبتل قدماه. فالقضاء على الفساد، أحد أخطر مشاكل تركيا تاريخياً، كان أحد شعارات الحزب الثلاثة وأحد أهم نجاحاته عملياً طيلة فترات حكمه الثلاث.
ورغم كل ما قد قيل ويمكن أن يقال حول توقيت الحملة وترتيبها ومخالفاتها القانونية وتقصدها التشهير وإصدار الأحكام قبل وصول الأمر للقضاء وثبات براءة بعض من قبض عليهم (ابن أحد الوزراء ورئيس بلدية الفاتح في اسطنبول)، إلا أن الرعشة في يد الحكومة والتوتر في صوت المتحدث باسمها خلال أول يومين كانا أوضح دليل على أنها ليست قضية هامشية.
تعاملت الحكومة بقيادة اردوغان مع القضية بنفس طويل وحكمة كبيرة، واستطاعت من خلال عدة إجراءات متزامنة ومتلاحقة أن تمتص الصدمة، ثم تتحول من الدفاع للهجوم في غضون أسابيع قليلة، من خلال استيراتيجية يمكن تلخيصها بالخطوات التالية:
أولاً، رغم اعتراف الحكومة ضمنياً باحتمال صحة الاتهامات بحق أي شخص من المتهمين، إلا أنها رفضت إعطاء أي إشارات بالضعف أو التراجع، فلم يـُقـِل اردوغان أياً من الوزراء في الأيام الأولى.
ثانياً، صدّرت الحكومة نظرية المؤامرة من خلال التركيز على أخطاء الحملة، من جمع ثلاث قضايا منفصلة ومتباعدة زمنياً في حزمة واحدة بغية إحداث ضجة إعلامية، إلى التنصت لشهور طويلة، إلى حفظ القضايا مدة غير يسيرة، إلى تفجيرها قبيل الانتخابات البلدية، إلى إخفاء القضية عن المسؤولين المباشرين في قوى الأمن والشرطة، إلى التسريبات الإعلامية، إلى الأخطاء الإجرائية العديدة في تفاصيل المتابعة والاعتقال والتحقيق.
ثالثاً، بدأت الحكومة حملة تغييرات وإقالات واسعة في صفوف أجهزة الأمن والشرطة، ما بين مخططين ومنفذين للعملية وبين مهملين لمسؤولياتهم أو متجاوزين لصلاحياتهم، وصل عددهم للآلاف حتى الآن.
رابعاً، بعد هدوء العاصفة استقال الوزراء الأربعة من حكومة اردوغان الذي أعلن تغييراً وزارياً واسعاً كان قد خطط له منذ فترة، لتخفيف الضغط عن الحكومة وتحويل القضية من تشهير إعلامي ضدها إلى قضية جنائية بحق وزراء سابقين فيها.
خامساً، بدأت وسائل الإعلام القريبة من دوائر الحكومة والحزب الحاكم حملة إعلامية مضادة، توضح خطط وأهداف وبنية ما اصطلح على تسميته “الدولة الموازية” المحسوبة على حركة “الخدمة” أو جماعة كولن.
وبعد مرور ما يقرب من ستين يوماً على الحملة الأولى تبدو الحكومة أكثر ثقة وثباتاً، معيقة حملات أخرى كانت في طريقها للتنفيذ، ولها الآن اليد الطولى في الأجهزة الامنية والشرطية، إضافة إلى مبادرة لإصلاح منظومة القضاء، متسلحة برأي عام تظهر استطلاعات الرأي أن غالبيته تعتبر ما حصل مؤامرة لإسقاط الحكومة وليس مجرد قضية جنائية.
العزلة الخارجية
بعد سنوات طويلة من نجاحات خارجية تكللت دبلوماسياً واقتصادياً تحت ظلال نظرية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، وجدت تركيا نفسها في عزلة دولية فرضها عليها تفردها في الموقف من الثورة السورية والانقلاب العسكري في مصر إضافة إلى القطيعة مع الكيان الصهيوني.
فقد وجد الأتراك أنفسهم في مواجهة النظام السوري وحليفيه إيران والعراق ومن ورائهم روسيا، لكنهم في الوقت ذاته لم يتطابقوا مع موقف العم سام، مما ترك سقف الخطاب التركي بلا داعم في الأزمة السورية، خصوصاً بعد الخلاف العميق بين تركيا وحلف الناتو حول الصواريخ الصينية، وضغط الولايات المتحدة للمسارعة في المصالحة مع ابنتها المدللة “إسرائيل”. وحين اختتم المشهد الإقليمي باتفاق جنيف بين إيران والغرب، بدا أن ديناميات الإقليم بدأت تتململ تحت الأقدام ولو على المدى البعيد.
تحركت الدبلوماسية التركية النشطة لتبعد الحبل عن عنق مواقفها الإقليمية، فأرضت حلف الناتو بصفقة سلاح توازن صفقة الصين، وزار اردوغان روسيا ودول شرق آسيا لتلطيف الأجواء مع الدب الروسي والتلويح بالانضمام لمنظمة شنغهاي، فيما بدا الموقف التركي أكثر مرونة من ذي قبل فيما يتعلق بالحل في سوريا.
فبعد عشرات التصريحات المنادية بضرورة رحيل الرئيس السوري، دعمت تركيا الحل السياسي المبني على قرارات جنيف 1، وساهمت في تغيير موقف الائتلاف السوري المعارض وتوجيهه نحو المشاركة بعد قراره الأولي بالمقاطعة، ومررت ملفاً ضخماً لجرائم ضد الإنسانية نفذها النظام السوري عشية المؤتمر عبر وكالة الأناضول للأنباء.
وفي سعيها لفك العزلة عن نفسها، قام داود أوغلو بعدة رحلات إلى العراق وإيران التي لم تقطع أنقرة معها كل الحبال، خاصة الاقتصادية، بل رحب الوزير المحنك بمشاركة إيران في جنيف 2 على قاعدة إقرارها بقرارات النسخة الأولى منه. وفي حين سجلت أنقرة نقطة في سباقها مع طهران بحرمان الأخيرة من المشاركة في المؤتمر، كان اردوغان على رأس وفد كبير يوقع في العاصمة الإيرانية على عدة اتفاقات اقتصادية وامتيازات تجارية تعد تركيا بحصة الأسد من عوائد رفع الحظر عن إيران.
وفي حين كان ينتظر أن تتراجع تركيا ولو تكتيكياً عن شروط تطبيع العلاقة مع دولة الكيان للخروج من الأزمة عبر بوابة إرضاء الولايات المتحدة، جدد اردوغان شرطه الثالث لذلك التطبيع وهو رفع الحصار عن غزة، معلناً موقفاً أعلى سقفاً من سابقه باشتراطه بروتوكولاً مكتوباً وعدم الاكتفاء بوعود شفوية برفع الحصارمن دولة الاحتلال.
انفراج بانتظار الانتخابات
هكذا، وخلال أسابيع، استطاعت سياسة الخطى البطيئة الثابتة ودبلوماسية الخيوط الممدودة أن تحمل حكومة اردوغان إلى خارج الشرنقة، لتحاصر “الدولة الموازية” وتحجم تأثيرها، ولتقوي ظهر الموقف التركي في الإقليم.
استقرار لا يتوقع له أن يكون عميقاً ومستداماً، فقد عودتنا الانتخابات التركية أن تحمل معها المفاجآت وسخونة الملفات قبلها وخلالها. ولئن رأى كثير من المراقبين أن الجولة الحالية قد انتهت لصالح اردوغان وحزبه الذي يتوقع له تكرار الفوز في الانتخابات البلدية، لكن الانتخابات الرئاسية في أغسطس 2014، والنيابية في حزيران 2015 ستكونان معركتي كسر عظم بين الحزب والراغبين في طي صفحته داخلياً وخارجياً، مما يقوي احتمالات أزمات سياسية-قضائية أخرى قد يتم تحريكها بين يدي تلك الانتخابات.