باستثناء السنوات القليلة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، لم تكن مسيرة تركيا الأوروبية تسير بإيجابية أو توحي بالنجاح، بل تـُركت الأخيرة على باب الاتحاد الأوروبي لعشرات السنين، مرة بحجة الاقتصاد وأخرى بذريعة حقوق الإنسان وثالثة بسبب عدم استيفائها لشروط ومعايير الانضمام.
هذه الشروط موزعة على 35 فصلاً، يفتح كل منها بقرار من الاتحاد ثم يغلق (يـُقرُّ) حين يقتنع الأخير بأن الدولة قد قدمت ما يتوجب عليها بخصوصه، بينما يكفي اعتراض أي عضو في الاتحاد (فيتو) لعدم فتح فصل ما أو إغلاقه، وهكذا كانت حصيلة تركيا بعد عشرات السنين فتح حوالي 10 فصول أغلق منها واحد فقط، بينما توجد اعتراضات (فيتو) من عدة دول على عدد من الفصول.
هذه الاعتراضات، الموزعة على عدد من الدول في مقدمتها اليونان وقبرص (اليونانية) وفرنسا وألمانيا وغيرها، تشير من طرف خفي إلى الأسباب الثقافية والسياسية والاقتصادية الكثيرة التي “تخيف” الأوروبيين من أنقرة، بدءاً من تصريحات الفرنسيين عن الاتحادكـ “نادمسيحي”، مروراً بالخلافات السياسية التاريخية مع اليونان وقبرص، وليس انتهاءً بالقوة الاقتصادية والبشرية التركية التي يخشى أن تمثل منافساً شرساً على مستوى إنتاج البضائع وعلى صعيد القوة العاملة.
هذه الحالة المزمنة من العلاقة الفاترة بين تركيا والاتحاد الأوروبي كانت قد اتخذت شكلاً من أشكال “إدارة الأزمة” بين الطرفين، بحيث يستفيدان – سياسياً واقتصادياً – من استمرار “عملية” الانضمام ومن الوضع الخاص المعطى لتركيا اقتصادياً، في حين يعرف الطرفان أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي إن لم تكن مستحيلة فهي صعبة جداً وبعيدة زمنياً على أقل تقدير.
كان هذا هو الحال حتى شهور قليلة قريبة، لكن ثلاثة عوامل مهمة طرأت مؤخراًقد تضع حداً لمسيرة تركيا الأوروبية إذا ما تفاقمت ولم تدر بالشكل الصحيح، وهي:
الأول، التقارب التركي – الروسي على هامش التوتر التركي – الأوروبي. فمنذ تأسيس الجمهورية التركية وسياستها الخارجية مبنية على التعاون مع الغرب وتشكل محاورَها الرئيسة العلاقاتُ مع كل من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). صحيح أن تركيا في عهد العدالة والتنمية حاولت بلورة سياسة خارجية “متعددة الأبعاد” أو المحاور تحمل بعض التوازن من خلال التوجه شرقاً والاهتمام بمحيطها، إلا أنه لم يطرأ تغير جوهري على أسس سياستها الخارجية.
وفي حين اعتبرت أنقرة أن الناتو وشركاءها الأوروبيين قد خذلوها في أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، إلا أن الأمور اتخذت مؤخراً منحى دراماتيكياً، أولاً بسبب مواقفهم الباردة والبطيئة – بالمقارنة مع موسكو – من المحاولة الانقلابية الفاشلة، وثانياً بسبب العلاقات التركية – الروسية التي أخذت أبعاداً إيجابية وتنسيقية بالتزامن مع التوتر الروسي – الأمريكي والروسي – الأوروبي والذي تمثل في مشروع القرار ضد روسيا في مجلس الأمن (وما رافقه من كلمات وتصريحات) وإلغاء زيارة بوتين لفرنسا وغيرها. وهكذا، في الوقت الذي تبدو روسيا على شفا مواجهة – بغض النظر عن الأدوات والمستوى – مع المعسكر الغربي، تبدو أنقرة في أفضل حالات التنسيق والتعاون معها خصوصاً في سوريا.
الثاني، اتفاق إعادة اللاجئين الذي أبرمته تركيا في آذار/مارس الفائت مع دول الاتحاد الأوروبي بحيث تعيد الأخيرة لتركيا “المهاجرين غير الشرعيين” في مقابل أخذها نفس العدد من اللاجئين السوريين، إضافة إلى مواد محفزة لتركيا مثل فتح فصل جديد من فصول ملف الانضمام وتحرير تأشيرة شينغن على المواطنين الأتراك. كان يفترض بهذه الأخيرة أن تحرر في تموز/يوليو ثم أجلت لنهاية تشرين الأول/أكتوبر، لكن الموقف الأوروبي بقي مصراً على متطلبات من أنقرة في مقدمتها إعادة صياغة قانون الإرهاب. وفي مقابل هذا التعنت الأوروبي وعدم تحرير التأشيرة، أعلنت تركيا أنها لن تفي في المقابل بالجزء المتعلق بها في الاتفاق، أي ضبط الحدود البحرية ومنع تدفق اللاجئين نحو أوروبا.
صحيح أن تركيا قد لا تذهب لخطوة تصعيدية مثل هذه، على الأقل حتى لا تظهر بمظهر غير المكترث بأرواح اللاجئين أو المتاجر بهالأجل المصالح، لكن الاتفاق بات عملياً في حكم الملغى – وهو الذي حمل بذور فشله منذ توقيعه – كما أن التعنت من الطرفين يشير إلى أزمة ثقة كبيرة ليست مرشحة للحل قريباً.
الثالث، إعادة حكم الإعدام في تركيا. إذ كانت تركيا قد ألغت حكم الإعدام على مراحل منذ 1999 وحتى 2004 في إطار التناغم مع معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي. لكن المحاولة الانقلابية الفاشلة جعلت من حكم الإعدام مطلباً شعبياً غذاه دعم الرئيس اردوغان للأمر، إذ أعلن غير مرة أن أي قانون سيصله بهذا الخصوص من البرلمان سوف يوقع عليه دون إيلاء أي اهتمام للانتقادات الأوروبية.
مؤخراً، أعلن دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية المعارض عن دعمه لمشروع من هذا القبيل في البرلمان وبالتالي فهو يحقق للعدالة والتنمية النسبة المطلوبة لتمرير الأمر إلى استفتاء شعبي (330 نائباً في البرلمان). بل قيل إنه من ضمن الشروط التي قدمها بهجلي بين يدي دعمه لمشروع الدستور الجديد وتعديل النظام الرئاسي، بما قد يضع الأمر على سكة التفعيل قريباً، وهي خطوة قد تكون كفيلة لتجميد عملية انضمام تركيا للاتحاد أو حتى إلغائها كلياً.
إضافة إلى هذه المتغيرات الثلاثة، ثمة عوامل ثلاثة لا تقل عنها أهمية، هي:
أولاً، المزاج الشعبي التركي الذي تغير بخصوص الانضمام للاتحاد الأوروبي، سيما مع جمود المفاوضات خلال السنوات الأخيرة، وهو عامل مهم في رسم السياسات التركية، على الأقل لجهة تخفيف الضغط عن الحكومة في هذا الإطار. ورغم أنه ارتفع نسبياً بعد اتفاق الإعادة في آذار/مارس الفائت إلا أنه عاد وتراجع بعد تعقد وتأجيل تحرير التأشيرة، مع الإشارة إلى أن نسبة الذين “يعتقدون” بأن تركيا ستكون يوماً ما جزءاً من الاتحاد الأوروبي أقل من نسبة أولئك الذي “يؤيدون” ملف العضوية (64.4% من الأتراك لا يرون أنها ستنمح العضوية يوماً وفق آخر استطلاع للرأي أجراه وقف التنمية الاقتصادي).
ثانياً، تداخل تركيا مع قضايا المنطقة أكثر فأكثر مؤخراً، سيما في سوريا والعراق بعد عملية درع الفرات وبدء معركة الموصل، بما يرجح بعدها “الشرق أوسطي” على بعدها “الأوروبي” في السياسة الخارجية، وهو عامل مرشح للتفاعل والتفاقم أكثر فأكثر.
ثالثاً، انشغال تركيا بأجندتها الداخلية، في مواجهة العمال الكردستاني والكيان الموازي وغيرهما، بما يجعلها أقل رغبة في وقدرة على تطبيق المعايير الأوروبية على المديين القريب والمتوسط.
في المحصلة، يبدو أن عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي – الموضوعة في الثلاجة منذ فترة ليست بالقصيرة – مرشحة لمزيد من التأزم والتراجع، وربما تصل إلى نقطة اللاعودة في ظل ضغوط الداخل والإقليم والمتغيرات على الساحة الدولية، بما قد يضع تركيا أمام استحقاق التفكير جدياً بتغيير بوصلة سياستها الخارجية، ربما لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923.