بعد أكثر من ثلاث سنوات من حالة القطيعة بين الحليفين السابقين، أعادت أخبار مفاوضات التعويضات في الصحافة العبرية وتذكير اردوغان بشروط تركيا السابقة للتطبيع موضوعَ العلاقات التركية – الإسرائيلية إلى الواجهة.
فبعد عقد التسعينات الذي يعتبر الفترة الذهبية في العلاقات العسكرية والأمنية تحديداً، وفي إثر سنوات التوتر التي انتهت بتدهور العلاقات السياسية والدبلوماسية إلى أدنى مستوياتها بعد حادثة السفينة مرمرة، يعاد طرح السؤال القديم الجديد عن مستقبل هذه العلاقات والعوامل التي قد تساهم في ترميمها وجسر الهوة التي نجمت عن تراجعها.
تحالف الضرورة
نسج الطرفان خيوط العلاقة الأولى بعد إعلان دولة إسرائيل مباشرة وكانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بها في آذار/مارس 1949، ثم تبادلت التمثيل الدبلوماسي معها عام 1952، لترفعه إلى مستوى السفراء عام 1991.
وقد بني هذا التقارب في ذلك الوقت على عدة عوامل، على رأسها كون الطرفين حليفين للولايات المتحدة الأمريكية في فترة الحرب الباردة، ونظر تركيا لعلاقتها مع إسرائيل كمفتاح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتطوير العلاقة مع الولايات المتحدة، وعلاقات تركيا المتوترة مع أعداء إسرائيل (سوريا وإيران)، وشعورها بخذلان الدول العربية لها في القضية القبرصية، والانقلاب العسكري في تركيا عام 1980 الذي جعل التقارب ثم التحالف مع إسرائيل قضية استيراتيجية، ثم الحاجة التركية الملحة لخبرات تل أبيب في الصناعات العسكرية.
لاحقاً، عرفت العلاقات بين البلدين عصراً ذهبياً في تسعينات القرن الماضي، كانت فيها إسرائيل مورد السلاح الرئيس لتركيا، وعقد بين الطرفين عامي 1995 و1996 أكثر من 20 اتفاقاً عسكرياً وأمنياً واستيراتيجياً، كان أهمها اتفاقية التعاون العسكري والمناورات المشتركة في شباط/فبراير 1996 التي وقعها رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان بضغط من المؤسسة العسكرية.
فقد استفادت إسرائيل من الأراضي التركية لإجراء مناورات عسكرية وللتجسس على دول الجوار (العراق، سوريا وإيران) فيما اعتمدت تركيا عليها في عملية تحديث وتطوير الجيش التركي، وتوج التعاون الأمني بين الطرفين بمساعدة الموساد في القبض على عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الانفصالي عام 1999.
من ناحية أخرى، تطورت الحركة التجارية بين الطرفين، اللذين وقعا عام 2000 اتفاقية التجارة الحرة، واستمر حجم التبادل التجاري بينهما بالارتفاع حتى تخطى حاجز المليار دولار.
العدالة والتنمية والتدرج نحو القطيعة
لم يطرأ تغير على العلاقات الدافئة بين الحليفين بعد وصول حزب العدالة والتنمية صاحب الجذور الإسلامية لكرسي الحكم في تركيا عام 2002، بل استمرت العلاقات التجارية بالنمو، وتوالت الاتفاقيات العسكرية بينهما، حتى وصل حجم التجارة العسكرية بينهما عام 2007 إلى 1.8 مليار دولار، ووصلت العلاقات الدبلوماسية ذروتها عام 2007 حين دعا الرئيس التركي نظيره الإسرائيلي لإلقاء كلمة أمام مجلس الأمة التركي في سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها لسياسي إسرائيلي أمام برلمان دولة ذات أغلبية ساحقة من المسلمين.
لكن الحرب الإسرائيلية على غزة في نهاية عام 2008 مثلت ضربة قاسية لأسس الثقة بين الطرفين، حتى أن اردوغان اعتبرها خديعة لبلاده وإهانة شخصية له، باعتبار أن الوسيط التركي كان يستضيف حينها المفاوضات الثنائية بين سوريا وإسرائيل. تعاقبت بعد ذلك سلسلة من الأزمات السياسية بين البلدين، منها موقف اردوغان أمام بيريز في دافوس عام 2009، وحادث إهانة السفير التركي (عرفت باسم أزمة الكرسي المنخفض) في تل أبيب عام 2010.
ذروة الأزمة
في 31 من أيار/مايو 2010، ضربت حكومة نتنياهو الإسفين الأخير في علاقتها مع حليفتها السابقة حين هاجمت قواتها البحرية سفينة مرمرة الزرقاء في عرض المياه الدولية وقتلت تسعة مواطنين أتراك. سُحب السفيران وتم خفض التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين، وألغت تركيا الاتفاقيات العسكرية المبرمة بين الطرفين، ورفعت بعض مؤسسات المجتمع المدني في المحاكم التركية قضايا ضد أربعة من القادة الإسرائيليين، واشترطت الحكومة التركية لعودة العلاقات لطبيعتها اعتذاراً مكتوباً، وتعويض عائلات الضحايا إضافة إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، ثم منعت إسرائيل من المشاركة في الاجتماعات والمناورات مع حلف شمال الأطلسي باستخدام حق النقض “فيتو”.
أصرت تركيا على شروطها، وتعنت الجانب الإسرائيلي رافضاً تلك المطالب، لكن الضغط الأمريكي المتزامن مع تغيرات إقليمية عدة على رأسها الأزمة السورية قربت المسافات بين الحكومتين، فاعتذر نتنياهو هاتفياً من اردوغان بوساطة أمريكية في الثاني والعشرين من آذار/مارس 2013، وبدأت عملية التفاوض على التعويضات الخاصة بعوائل الضحايا التسع وما زالت مستمرة حتى اليوم، في ظل حديث وسائل الإعلام عن قرب توصل الطرفين لاتفاق ما.
عوامل مساعدة وأخرى مثبطة
كانت تطورات المشهد السوري وشعور الطرفين بالخطر المتزايد من تفاعلاته وضرورة التعاون في مجال المعلومات العامل الرئيس الذي دفع بهما للتنازل، فقبل نتنياهو الاعتذار وتراجعت تركيا عن شرط الاعتذار المكتوب واكتفت بالصيغة الشفوية. يضاف إلى ذلك الضغط الأمريكي المتزايد على حليفيها في إطار خطتها لترتيب أوضاع المنطقة، واكتشاف حقول غاز شرق البحر المتوسط فتحت باب التعاون بينهما في مجال الطاقة، واستمرار العلاقات التجارية البينية رغم القطيعة السياسية، وشعور تركيا بنوع من العزلة الإقليمية بعد طول أمد المشكلة السورية واتفاق جنيف الأخير بين إيران والغرب.
لكن في مقابل هذه العوامل التي تدفع بالبلدين نحو طي صفحة الماضي والتعاون في عدة مجالات، هناك عوامل أخرى توحي بصعوبة عودة المياه إلى مجاريها بين العاصمتين. فمع تطور الصناعات التركية في السنوات الأخيرة لم تعد تركيا كما كانت بالأمس من حيث الحاجة الماسة للصناعات العسكرية الإسرائيلية، في حين تخطت علاقاتها مع دول الجوار حد العداء/الحرب (رغم الخلاف إزاء سوريا)، ولا يبدو جهاز الاستخبارات التركي معنياً بتعاون وثيق مع نظيره الإسرائيلي بعد ترؤس حاقان فيدان له، بل وصل الضيق بالموساد إلى اتهامه بالتعاون مع إيران ضده، وشنت الصحافة العبرية حملات مكثفة هاجمت من أسمته رجل إيران في الاستخبارات التركية، إضافة إلى أنباء تسربت عن احتمال تورط إسرائيل في محاولات اغتيال اردوغان.
وفي ظل استمرار القضايا المرفوعة أمام المحاكم التركية رغم الاعتذار، يبدو العامل الشخصي ماثلاً للعيان وممثلاً بشخص اردوغان، الذي تعرض لحملات تشويه وتحريض إسرائيلية، ولا يبدو راغباً بتطبيع كامل للعلاقات مع تل أبيب، حيث رفع في آخر حديث له من سقف مطالب تركيا السابق باشتراطه اتفاقاً مكتوباً مع الحكومة الإسرائيلية بخصوص رفع الحصار نهائياً عن غزة، وعدم الاكتفاء بتعهد تل أبيب بذلك.
وماذا بعد؟
أمام هذه التفاصيل المتشابكة والمتداخلة في المشهد الثنائي، يبدو الطرف الإسرائيلي أكثر تلهفاً لاتفاق ينهي حالة الجفاء مع أنقرة، ويوقف نهائياً العملية القضائية ضده، ويدفع مجدداً باتجاه التعاون العسكري والأمني بمستواه السابق، بينما يبدو الطرف التركي أكثر هدوءاً وحذراً قبيل الانتخابات المحلية في نهاية آذار/مارس القادم، بل ربما لجأ لوقف المفاوضات أو تصعيد الموقف مع تل أبيب لخطب ود الناخب التركي الناقم عليها، كما حصل في موقف اردوغان مع بيريز في قمة دافوس التي سبقت الانتخابات المحلية بشهرين فقط وساهمت في رفع شعبية اردوغان وحزب العدالة والتنمية حينها.
وفي ضوء التغيرات السريعة في المنطقة والعالم، وتحت وطأة الضغط الأمريكي، لربما يجد الحليفان السابقان نفسيهما أمام تحالف ضرورة جديد، لكن تبقى علامة الاستفهام قائمة ووجيهة بخصوص درجة التعاون ومستوى التحالف الذي قد يضطر إليه الطرفان، في ظل أزمة الثقة التي تفاقمت ووصلت حداً غير مسبوق خلال سنوات القطيعة.