هل تطلق أنقرة القس الأمريكي لتحسين العلاقات مع واشنطن؟
الجزيرة نت
تمر العلاقات التركية – الأمريكية مؤخراً بأزمة غير مسبوقة، شملت عقوبات من الإدارة الأمريكية على وزيرين تركيين – ردت عليها تركيا بالمثل – ورفعاً لرسوم استيراد الألومينيوم والصلب منها، ملقية بظلالها السلبية على الاقتصاد التركي. وسبب هذه الأزمة، من وجهة نظر واشنطن، هو توقيف السلطات التركية للقس الأمريكي أندرو برونسون.
برونسون
عام 2016،أوقفت السلطات التركية القس الأمريكي أندرو برونسون بتهم تتعلق بالتواصل والتعاون مع حزب العمال الكردستاني و”الكيان الموازي”، أي قيادة جماعة الخدمة التي يتزعمها فتح الله كولن، وكلاهما مصنف كمنظمة إرهابية في تركيا، فضلاً عن دور مفترض له في المحاولة الانقلابية الفاشلة.
بعد حوالي سنتين، في الخامس والعشرين من تموز/يوليو الفائت، قررت محكمة تركية إخراج القس من السجن مع إبقائه رهين الإقامة الجبرية في منزله، مع السماح له بالتواصل مع عائلته وجهات حكومية أمريكية.
وفي ظل الحديث عن تفاهمات أمريكية – تركية ومفاوضات سرية بخصوص القس سبقته، اعتبر ذلك القرار مقدمة للإفراج عن برونسون ضمن صفقة يمكن أن تشمل النائب السابق لرئيس مصرف “خلق” التركي محمد حاقان أتيللا المسجون في الولايات المتحدة، وفق صحيفة ديلي صباح المقربة من الحكومة التركية. لكن الجانب الأمريكي فاجأ أنقرة بالتصعيد الخطابي ثم بعقوبات سياسية واقتصادية، مطالباً إياها بالإفراج الفوري عنه وإلا فعليها أن تستعد لحزمة جديدة من “العقوبات الكبيرة” وفق تعبير ترمب.
تنوعت التقييمات حول الدوافع الأمريكية من هذه القرارات التي كانت المحرّك لأزمة مالية تعاني منها تركيا منذ ذلك الحين تراجعت فيها قيمة الليرة %20 في يوم واحد، بين حسابات الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وبين عدم الرضى عن السياسة الخارجية التركية لا سيما التقارب مع موسكو وطهران. لكن الأوساط التركية تكاد تتفق على أنها الأزمة الأكبر في تاريخ العلاقات الثنائية، فيما تفضّل القيادية السياسية أن تسميها “حرباً اقتصادية”.
وفي مواجهة الضغوط الأمريكية واشتراط الإفراج الفوري عن القس، بل وتصريح ترمب بأن العقوبات لن ترفع حتى في حال أفرج عنه، تتمسك أنقرة برؤيتها لحل الأزمة عن طريق الحوار المباشر والندي والابتعاد عن لغة التهديد والإملاءات.
احتمالية التهدئة
تعاملت تركيا مع العقوبات الأمريكية بندية على مبدأ التعامل بالمثل، ففرضت عقوبات على وزيرين أمريكيين ورفعت الرسوم على بعض البضائع الأمريكية بنفس القيمة المالية للعقوبات الأمريكية عليها، لكن ذلك لا يعني أن أنقرة معنية بمواجهة مفتوحة مع الإدارة الأمريكية.
ثمة عوامل كثيرة تدفع أنقرة لحل الأزمة سريعاً مع واشنطن، في مقدمتها الأثر المباشر الذي تركته على اقتصادها وعملتها، والفارق الكبير في موازين القوى بين الجانبين، وصعوبة التنبؤ بخطوات ترمب المقبلة، والرغبة في استمرار منحى التحسن في سعر الليرة دون هزات جديدة، والحرص على مسار التعاون مع واشنطن في سوريا تحديداً، وتجنبعقوبات أمريكية إضافية مع الاقتراب من انتخابات الكونغرس وموعد الحزمة الجديدة من العقوبات على إيران.
في هذا الإطار يمكن فهم التصريحات الإيجابية التي صدرت عن تركيا ورغبتها في حل الأزمة سريعاً، بل وتوقعها ذلك. فهل يمكن أن يحصل ذلك قريباً؟
ثمة مؤشرات تدعم هذه الفرضية، في مقدمتها تصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بأن القس قد يطلق سراحه قريباً، واللقاء القصير الذي جمع الرئيسين الأمريكي والتركي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة للإعلان عن قرب بدء تسيير دوريات مشتركة بين القوات الأمريكية والتركية في منبج. وهي تطورات تضاف لتراجع حدة التصريحاتالأمريكية ضد أنقرةوتعطي انطباعاً بتهدئة من نوع ما بين الجانبين انعكست إيجاباً على سعر صرف الليرة التركية.
من هذه الزاوية، هناك من يرى بأن تصريحات الرئيس التركي بأن “القرار للقضاء التركي” وأن “المسألة ليست سياسية” إشارة إلى أن القضاء التركي يمكن أن يقدم للطرفين – خصوصاً تركيا – سلماً للنزول عن الشجرة، بحيث تحصل واشنطن على القس ولا تبدو أنقرة كمن تراجع تحت الضغط. وبالتالي قد يكون موعد الجلسة المقبلة لبرونسون، في الثاني عشر من الشهر الجاري، انعطافة في الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة إذا ما أخلت المحكمة سبيله، حسب ما يتوقعه الكثيرون ويبدو منطقياً.
ويدعم هذه الفرضية أن المحكمة سبق وأن أخرجت القس من السجن للإقامة المنزلية الجبرية وهي إشارة على منحى إيجابي في قضيته، إضافة لسوابق مشابهة منها إطلاق سراح الصحافي الألماني من أصل تركي دنيز يوجال في شباط/فبراير الماضي إثر زيارة رئيس الوزراء التركي السابق )رئيس البرلمان الحالي(بن علي يلدرم إلى ألمانيا.
مستقبل العلاقات
في المحصلة، هناك بعض المؤشرات على احتمال إطلاق سراح برونسون خلال أيام ما سينعكس إيجاباً على العلاقات التركية – الأمريكية وعلى المؤشرات المالية في تركيا على حد سواء.
بيد، من المهم القول إن ذلك ليس مساراً حتمياً بل قد تتعقد الأمور أكثر في حال صدر قرار المحكمة مخالفاً لهذه التوقعات، وهو أمر سيزيد من حدة التصريحات والضغوط الأمريكية على أنقرة ولا شك، لا سيما مع الفائدة المرتجاة لترمب من ذلك في انتخابات الكونغرس النصفية التي يحرص فيها على أصوات الإنجيليين.
من جهة أخرى، فإن إطلاق سراح القس وما سيعكسه من مناخ إيجابي على العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن لا يعني طي صفحة الخلاف تماماً أو العودة سريعاً إلى مسار الشراكة الاقتصادية ومقتضيات التحالف. فالقضايا الخلافية بين الجانبين ما زالت قائمة ومستشكلة، وهي ليست هامشية أو فرعية بل تقع في صلب الأمن القومي التركي وأولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالي فالانفراجة إن حصلت مرشحة لأن تكون مؤقتة ونسبية وليست تامة أو نهائية.
أكثر من ذلك، فإن إصرار الولايات المتحدة على فرض عقوبات إضافية على طهران في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل سيضع أنقرة أمام خيارين أحلاهما مر، فإما المشاركة في العقوبات بما سيعود بالضرر الكبير على اقتصادها وإما الامتناع حماية للأخير وبالتالي المجازفة بتصعيد جديد مع الإدارة الأمريكية. ولا شك أن التصريحات التركية حول عدم “دَوْلية” العقوبات الأمريكية و”التزام الحكومة التركية بمصالح الشعب التركي” لا سيما في ملف الطاقة ترجّح المسار الثاني وبالتالي توتراً محتملاً على خط أنقرة – واشنطن.
رئيس البرلمان التركي بن علي يلدرم أوجز المطالب التركية من الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات معها بثلاثة مسارات، هي “خطوة باتجاه منظمة فتح الله كولن)فيتو( الإرهابية، وإيقاف دعم وحدات الحماية الكردية في سوريا، وفتح صفحة جديدة بخصوص فتح الله كولن وقضية مصرف “خلق” التركي ونائب رئيسه السابق حاقان أتيللا”. وهي خطوات لم تبد واشنطن على مدى السنوات القليلة الأخيرة أي مؤشر على تجاوبها معها، اللهم إلا الإعلان قبل أشهر عن تحقيق بدأه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBİ) حول منظمة كولن، والذي لم يرشح بخصوصه أي تقدم منذ ذلك الإعلان.
وعليه، فإنالعلاقات التركية – الأمريكية مرشحة أن تبقى على المديين القريب والمتوسط متأرجحة بين التوترات والانفراجات النسبية بعيداً عن الشراكة الكاملة أو القطيعة التامة، فيما يتواصل سعي تركيا لسياسة خارجية متعددة الأبعاد والمحاور ما يمنحها شيئاً من التوازن والمرونة والاستقلالية، مع أهمية خاصة لشهري أكتوبر الحالي ونوفمبر المقبل لما سيشهدانه من تطورات مؤثرة بشكل مباشر على مسار العلاقات بين البلدين سلباً أو إيجاباً.