منذ أن لوّح الرئيس رجب طيب أردوغان بعملية عسكرية برية في سوريا في أيار/مايو الفائت ثم أعاد التأكيد عليها بعد تفجير إسطنبول الإرهابي الشهر الفائت وعدد من الأطراف تعارض شن أنقرة هذه العملية من منطلقات مختلفة وبصياغات متباينة ولأهداف متنوعة، ومن بين هذه الأطراف الولايات المتحدة الأمريكية.
ترى أنقرة أن هذه العملية ضرورة لاستكمال رؤيتها لمكافحة الإرهاب المرتبط بتنظيم PKK الإرهابية بمنطق الحرب الاستباقية، وبشكل أخصّ لتطهير الشمال السوري من البؤر التي تستغلها المنظمات الإرهابية والانفصالية لاستهداف الداخل التركي وبهدف إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا لعودة السوريين المقيمين على أراضيها وفق ما سبق وأعلن الرئيس أردوغان.
وقد أكد تفجير شارع الاستقلال الذي أودى بحياة ستة مدنيين الشهر المنصرم على ضرورة هذه العملية بالنسبة لأنقرة، إذ جاءت منفذة الهجوم من الشمال السوري وتلقت التعليمات من عين العرب/كوباني وفق السلطات التركية. ولذلك فقد أكد أردوغان على أن عملية “المخلب – السيف” الجوية ليست كافية للحد من خطر الإرهاب وأنها ستستكمل بعملية برية تستهدف في المقام الأول مناطق تل رفعت ومنبج وعين العرب/كوباني.
يضاف لما سبق أن تركيا كانت قد أوقفت عملية “نبع السلام” شمال سوريا في 2019 بعد تفاهمات أبرمتها مع كل من موسكو وواشنطن تلتزمان بموجبها بإبعاد مسلحي ميليشيات وحدات الحماية أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى عمق 30 كلم عن الحدود السورية – التركية، وهي الاتزامات التي لم ينفذها البلدان حتى الآن وفق أنقرة.
رغم ذلك، من المعروف أن واشنطن تعارض إطلاق تركيا عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري رغم أنها كانت صرحت بأن “لتركيا الحق في الدفاع عن نفسها”، بل إن هذا الموقف المعارض ظهر للعلن وببيانات رسمية صادرة عن البنتاغون.
أكثر من ذلك، كان من الملاحظ أن سقف الموقف الأمريكي من العملية تمايز حتى عن الموقف الروسي، إذ حذرت موسكو من التداعيات السلبية للعملية البرية، بينما طالبت واشنطن بوقف العملية الجوية “المخلب – السيف” كذلك. وقد بررت الأخيرة رفضها هذا بأمرين رئيسين: إمكانية تعرض سلامة جنودها في سوريا للخطر، وتقويض جهود مكافحة تنظيم “داعش”.
لم تسجل العمليات التركية السابقة أي استهداف أو إصابات في صفوف الجنود الأمريكان في الشمال السوري، وقد طالبت أنقرة واشنطنَ مراراً بإبعاد جنودها عن مواقع PYD الإرهابي.
لم تسجل العمليات التركية السابقة أي استهداف أو إصابات في صفوف الجنود الأمريكان في الشمال السوري، وقد طالبت أنقرة واشنطنَ مراراً بإبعاد جنودها عن مواقع PYD الإرهابي، كما أن وزير الدفاع خلوصي أكار تحدث عن ضمانات بخصوص عدم استهدافهم أو تعرضهم للإصابة، ومن البديهي أن أي عملية عسكرية ستشمل تواصلاً وتنسيقاً مع الأطراف الموجودة على الأرض ومن بينها الولايات المتحدة.
ولذا، يبقى السبب الرئيس المعلن لرفض الولايات المتحدة العملية التركية البرية في سوريا هو “تقويض جهود مكافحة داعش”. فهل هو سبب حقيقي أم مجرد ذريعة؟
في إطار البحث عن الإجابة من المهم الإشارة لبعض المعطيات والوقائع.
أولها أن أنقرة كانت قد عرضت على واشنطن منذ البداية التعاون في مكافحة ما سمي حينها بتنظيم داعش الإرهابي وعدم الاعتماد على ميليشيات PYD، وكررت مراراً مبدأ عدم مكافحة تنظيم إرهابي بآخر.
إلا أن واشنطن حسمت خيارها باتجاه دعم PYD لأسبابها، وفي محاولة لتقليل حجم الاعتراضات التركية فقد ميّزت بين تنظيم PKK الذي تعدُّه هي كذلك منظمة إرهابية وبين امتداداته السورية، قبل أن تعمد لـ”تطعيم” الأخيرة بعناصر إضافية وتغيير اسمها “لقوات سوريا الديمقراطية”.
ثم أن تركيا أثبتت بشكل عملي مكافحتها لتنظيم داعش، ليس فقط على المستوى النظري والاستخباراتي بتصنيفه منظمة إرهابية وملاحقة عناصره، ولكن كذلك بشكل عملي حيث وجهت ضده أولى عملياتها في سوريا عام 2016 وهي عملية درع الفرات وقضت على وجوده في تلك المناطق.
ويضاف لما سبق تراجع حضور التنظيم وقوته وأدواته وعناصره بشكل ملحوظ جداً في السنوات القليلة الأخيرة وفق التقارير الدولية والمعطيات الميدانية.
لا شك أن التنظيم ما زال موجوداً في إطار “الذئاب” المنفردة أي بعض الأفراد غير المرتبطين تنظيمياً ولكن المؤمنين بفكر التنظيم وفكرته، وصحيح أن التنظيم ما زال قادراً على شن بعض الهجمات المفترقة هنا وهناك كل حين، إلا أنه بعيد كل البعد عن أن يشكّل خطراً كبيراً فضلاً عن أن يشابه حالته السابقة في السيطرة والتمدد، وهي حقيقة تدركها جميع الأطراف.
كم أن الجميع يدرك أن هذا الفكر المتطرف سيبقى موجوداً بطريقة أو بأخرى وأنه قد يكون من المتعذر الإجهاز نهائياً على التنظيم، ولذلك سيبقى فيما يبدو ورقة مناسبة للاستخدام من قبل عدد من الأطراف. وهنا، من اللافت أنه كلما لوحت أنقرة بعملية عسكرية في سوريا لجأت قسد للتهديد بورقة منتسبي داعش في السجون، كورقة تفاوضية مكشوفة.
وعليه، فرفض الولايات المتحدة للعملية التركية ضد PYD والإصرار على دعم الأخيرة وتسليحها وتدريبها يبدو بعيداً عن هذا الهدف المعلن وأقرب لتحقيق مصالح استراتيجية لواشنطن، كالبقاء – عسكرياً – على الأراضي السورية ولا سيما في مناطق النفط والغاز، موازنة روسيا، احتواء إيران، وكذلك الضغط على تركيا.
هذا الهدف الأخير حاضر جداً لدى أنقرة التي تربطه بتوسع الحضور الأمريكي العسكري مؤخراً في كل من اليونان التي وصفها أردوغان بأنها باتت “قاعدة عسكرية أمريكية” إضافة لتخلي واشنطن عن موقفها التقليدي بالحياد بين أنقرة وأثينا وفي المسألة القبرصية وفق تصريحات وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو.
ولذلك، ورغم عضوية الجانبين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقة الشراكة الاستراتيجية التي تجمعهما، فإن الملفات الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة عديدة ومركبة ويرتبط معظمها بالأمن القومي، وهو أمر ذو دلالة بالغة.
فدعم الولايات المتحدة للمنظمات الانفصالية في الشمال السوري أمر شديد الحساسية بالنسبة لأنقرة، فضلاً عن عدم تعاونها في ملف التحقيق مع منظمة كولن المسؤولة عن الانقلاب الفاشل، ومماطلتها ببيع تركيا مقاتلات F16 حتى اللحظة وإخراجها من مشروع F35 التي كانت شريكة به.
في المقابل، تتحفظ واشنطن كثيراً على العلاقات الجيدة والمتنامية بين تركيا وروسيا وخصوصاً على المستوى الشخصي بين أردوغان وبوتين في السنوات الأخيرة والتي توجت بشراء أنقرة منظومة S400 الصاروخية الدفاعية الروسية.
مؤخراً، تحدثت تقارير عن عرض أمريكي لتركيا لإلغاء عمليتها العسكرية، وقالت إن الرد التركي كان ضرورة “إنهاء سيطرة قسد على منشآت النفط قبل النظر في المقترح”. كما تناولت محادثاتٌ بين تركيا وروسيا مؤخراً الملف السوري وتحديداً العملية التركية، وقال المبعوث الروسي لسوريا ألكسندر لافرنتييف إن بلاده “ما زالت تعمل على إقناع تركيا بالعدول عن العملية”.
ولذلك، تطالب أنقرة كلاً من موسكو وواشنطن بالالتزام بتعهداتهما السابقة الواردة في اتفاق سوتشي 2019 (روسيا) والتفاهمات التي أبرمت بعد إطلاق عملية نبع السلام (روسيا والولايات المتحدة)، وما زالت تبذل جهوداً دبلوماسية مع الجانبين في هذا الإطار.
وبمقابل المقترحات الروسية والأمريكية قدمت تركيا مطالب محددة وتحدث بعض مسؤوليها عن “مهلة” منحتها للجانبين لتنفيذ هذه الالتزامات وإلا اضطرت لإطلاق العملية البرية.
وهو ما يعني، في نهاية المطاف، أن خيار العملية البرية ما زال موضوعاً على طاولة صانع القرار التركي وما زالت خياراً ممكناً وإن تأخر أو أجّل لبعض الوقت لإتاحة المجال للجهود الدبلوماسية التي يمكن أن تحول دون العملية إن حققت الأهدافَ المرجوّة منها.