هل تحترق جماعة كولن بلهيب القضاء الذي أشعلته في وجه الحكومة التركية؟

يظهر تكرر الانتقادات الأوروبية والأمريكية للحكومة التركية بعد القبض على عدد من الصحافيين المحسوبين على جماعة كولن أن الأخيرة تعاني من حرج أو مأزق ما مع حلفائها الغربيين، لكن قد يكون للقصة أيضاً زاوية أخرى، لها علاقة بالمعركة المباشرة بين الحكومة والتنظيم الموازي.

قبل عام من الآن، كانت الحكومة التركية في أضعف حالاتها منذ 2003، حين قبض على عدد من أبناء وزرائها ورجال أعمال وشخصيات محسوبة عليها بدعوى الفساد المالي واستغلال السلطة، لكن الحكومة استطاعت تفادي السقوط، وامتصت الصدمة الأولى، ثم بدأت بمواجهة شاملة مع ما أسمته “التنظيم الموازي” المتنفذ في مختلف مؤسسات الدولة.

ساحة المعركة كانت كل مؤسسات الدولة المهمة، من شرطة إلى أمن إلى استخبارات (نفوذه فيها قليل) إلى قضاء إلى جيش، ويبدو أن الحكومة قد كسبت معظم إن لم يكن كل الجولات حتى الآن وتستعد للضربة القاضية. فبعد عدد كبير من الإعفاءات والتنقلات والقرارات والتعميمات في المؤسسات المذكورة، أتت انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين لتضعف سيطرة التنظيم الموازي على آخر وأهم معاقله، وهو القضاء.

هذا التنظيم، وهو الاسم المستعمل رسمياً وقضائياً للتعبير – فيما يبدو – عن القيادة المتنفذة في جماعة الخدمة التي يتزعمها الداعية التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن، أوقف لشهور عديدة الكثير من قضايا التجسس ومحاولة الانقلاب على الحكومة، وتمكن من الإفراج عن عدد كبير من رجال الشرطة والأمن المعتقلين على ذمة قضايا من هذا النوع، ويبدو أن خسارته للانتخابات الأخيرة كانت الصاعق الذي فجر عدداً من القضايا ضده وسرّع من وتيرتها.

لكن المختلف في القضية الأخيرة – قضية الرابع عشر من كانون أول/ديسمبر – هو أن بعض المتخفظ عليهم على ذمة التحقيق صحافيون، من بينهم رئيس تحرير صحيفة الزمان والمدير العام لتلفزيون صامانيولو التابعَيْن لجماعة كولن، وهذا مصدر حساسيتها. إضافة إلى ذلك، فقد أحسنت الجماعة ملاعبة الحكومة وابتدرتها بالمناورة. فقبل أيام من طلبهم لأخذ إفادتهم، سربت الجماعة عبر حساب تويتر مجهول المصدر – تستخدمه منذ أشهر لتسريب معلومات من داخل دوائر الحكومة – عن قرب اعتقال 400 إعلامي (!) محسوب عليها ضمن ما أسمته “انقلاباً على الإعلام”. أكثر من ذلك، ذهب هؤلاء الإعلاميون إلى المدعي العام في قصر العدل قبل طلب إفادتهم بيوم واحد للتأكد من وجود تحقيق بشأنهم من عدمه، ونظموا مؤتمراً صحافياً امام وسائل الإعلام. وبهذا نجحت الجماعة في إثارة القضية قبل بدئها، وتهيئة الرأي العام للأمر، ثم حشد أنصارها الذي بدؤوا بالتظاهر حين تم التحفظ على الإعلاميين على ذمة التحقيق.

في الرواية الحكومية، لا شيء في القضية سياسي، وإنما هي دعوى تقدم بها زعيم احد الجماعات النورسية ضد جماعة كولن يتهمها بأنها “فبركت” له ولجماعته قضية عام 2010، وساهمت في حينها وسائل إعلام الجماعة (وعلى رأسها التلفزيون والصحيفة المذكورتان) في عملية التحريض والدعاية ضده. وبعد أن قضى مع عدد من أنصاره 17 شهراً في السجن على ذمة التحقيق بتهمة الإرهاب، خرج الرجل وقرر مقاضاة من ظلموه.

تفاصيل التحقيق التي تم الكشف عنها حتى الآن أيضاً مثيرة ولافتة للاهتمام. حيث يبدو أن الموضوع بدأ حين عارض الرجل فتوى كولن بأن الحجاب من “فروع” الدين حين كان الحجاب محظوراً في تركيا، كما انتقد تحويل أموال الزكاة إلى “غنائم”. في السادس من نسيان/أبريل 2009، تحدث كولن في إحدى محاضراته عن مجموعة إرهابية ذات صلة بالقاعدة أسماها “أتباع التحشية”، بينما بدأت القضية بنفس الاسم عام 2010. بالتوازي مع ذلك، ظهرت كلمات مثل “التحشية” و”الرحلة” للتعبير عن منظمة إرهابية في مشاهد بعض المسلسلات المعروضة على قناة صامانيولو التابعة لكولن.

فإذا ما عرفنا اليوم أن الرجل يملك دار نشر اسمها “التحشية والرحلة” لأن جماعته تطبع “رسائل النور” التي كتبها بديع الزمان سعيد النورسي بعد إضافة “حواشي” عليها، وإذا ما عرفنا من التحقيق أن المشاهد المذكورة لم يكتبها السيناريست بل أرسلت إليه جاهزة ليتم تصويرها مباشرة، ندرك أننا أمام قصة مثيرة للانتباه تشير بقوة إلى وجود نظام بهيكلية معينة، سيما وأن أسلوب إرسال الرسائل السياسية عبر مشاهد المسلسلات أمر متعارف عليه في تركيا نوعاً ما، ومثاله الأوضح هو مسلسل “وادي الذئاب” الذي كان يحاكي أحداث الواقع عاكساً وجهة نظر الحكومة، خصوصاً خلال أزمة قضية الفساد.

ورغم أن المتحفظ عليهم كانوا 30 شخصاً فقط، الإعلاميون فيهم ربما لا يزيدون عن النصف، ورغم أن الجميع الآن أخلي سبيله من قبل قاضي التحقيق باستثناء أربعة، ثلاث منهم رجال أمن إضافة إلى المدير العام لقناة صامانيولو التلفزيونية هداية كاراجا، إلا أن القضية حساسة جداً. أولاً لطلب قاضي التحقيق استصدار مذكرة اعتقال بحق كولن بتهمة “تأسيس وقيادة منظمة إرهابية”، وثانياً لشملها إعلاميين معارضين، وثالثاً لأنه يصعب افتراض حيادية الحكومة التامة في هكذا قضية ضد عدوها اللدود، ورابعاً لتوقيتها في الذكرى السنوية الأولى لقضية الفساد المدعاة والتي لم تـُصدر بعدُ اللجنة المشكلة من قبل مجلس الشعب تقريرها بخصوص الوزراء الأربعة المتهمين والذين قدموا استقالاتهم العام الماضي.

وهكذا، يبدو أن الجماعة التي فقدت الكثير من معاقلها ومراكز قوتها في طريقها لخسارة منبرها الإعلامي الذي تستثمره في معركتها المستمرة منذ سنوات مع الحكومة، كما توحي ردود الرئيس والحكومة على الانتقادات الغربية بشيء من الثقة بنتيجة القضية، يعكسها أيضاً طلب المدعي العام من المحكمة استصدار قرار اعتقال كولن. لكنها في النهاية معركة لا يمكن حصرها بأروقة القضاء، بل تتداخل فيها عوامل عدة مثل الرأي العام والإعلام والضغوطات الدولية، فضلاً عن أن نتيجتها أكثر تعقيداً من إمكانية التنبؤ بها بسهولة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تعالوا نحل "الإخوان" ولكن أي "إخوان" منهم؟

المقالة التالية

قراءة في المشهد الحزبي التركي قبل الانتخابات

المنشورات ذات الصلة