بعد أشهر من بدئها بعد تشكيل تحالف دولي، يبدو أن الحرب على “الإرهاب” غيرت وستغير الكثير من المقولات الثابتة والمعادلات الراسخة في المنطقة، وعلى رأسها التحالفات القائمة منذ عشرات السنوات بين القوى الإقليمية والعالمية.
محاور وتحالفات سابقة
قبل رياح الربيع العربي التي بعثرت الكثير من الأوراق في المنطقة، كان العالم العربي ينقسم ما بين دول الممانعة التي تسير في ركب طهران، ودول الاعتدال التي تسير في ركب الرياض. ولأسباب عدة، كانت تركيا تحسب ضمناً على محور الممانعة، رغم منافستها الشديدة مع إيران.
أما من وجهة النظر الأمريكية فكان هناك تصنيف آخر يتعلق بالأيديولوجيا ثم بالمصالح الأمريكية، فكانت إيران إحدى “دول محور الشر” الذي يدعم “الإرهاب” ووصلت معها واشنطن حد التهديد باستعمال القوة العسكرية في حال لم توقف برنامجها النووي وتخضعه للرقابة الدولية، بينما كانت الأدبيات الإيرانية تصف الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر، وتبني سياستها الخارجية برمتها بناءً على العداء معها ومع من يسير في فلكها.
أما تركيا، فهي تقليدياً القاعدة المتقدمة للولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في المنطقة، تحديداً في وجه الاتحاد السوفياتي سابقاً، ورغم انهيار الأخير إلا أنها أثبتت أهميتها للسياسة الأمريكية الخارجية أكثر من مرة، عبر التعاون في حرب الخليج الثانية وفي أفغانستان ضمن قوات “إيساف” التي تقدم من خلالها أنقرة دعماً لوجستياً وإنسانياً، وفي ملفات أخرى عديدة.
هذه التصنيفات الأمريكية كانت تعني ولفترة زمنية طويلة أن أنقرة حليف إقليمي بينما طهران عدو وخصم لواشنطن في المنطقة، وكانت تعني – في فترة ما – أن الأولى يمكن أن تكون وسيطاً بين الأخريين إن دعت الحاجة لذلك (وربما عبر التنسيق مع واشنطن)، وهو ما تم بالاتفاقية الثلاثية بين إيران وتركيا والبرازيل المتعلقة باليورانيوم الإيراني، وهو ما اعتبر وقتها نزعاً لفتيل الأزمة بين إيران والغرب.
تغيرات واصطفافات
قضى الربيع العربي على المحورين السابقين وخلط الأوراق. فقد أسقطت الثورة مصر عن قيادة محور الاعتدال وبدونها تبعثر الأخير، أو هكذا بدا لنا في حينه. أما محور الممانعة فعانى من بعض الاختلافات والخلافات حول الثورة السورية أدت إلى تصدع أركانه، إضافة إلى إخراج قطر وتركيا منه على اعتبار أنهما من “المحور الأمريكي” المنسق للمؤامرة على الوطن العربي، الذي قصد به النظام السوري حصراً.
من جهة أخرى، لم تستمر العلاقات على حالها طويلاً، لا على محور واشنطن – أنقرة ولا على محور واشنطن – طهران. فقد توترت العلاقات الأمريكية التركية وإن لم تظهر كل تمظهراتها على السطح، بينما خفت حدة الخطاب الهجومي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإن لم يعلن عن صفقة أو مصالحة.
بعد سنوات طويلة من تقديم الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا على أنها نموذج الإسلام المتقبل للديمقراطية في العالم الإسلامي، بدا وكأنها هي أول من كفر بهذا النموذج. نزعة أنقرة نحو الاسقلالية النسبية أو الجزئية في السياسة الخارجية كانت على ما يبدو أكبر من قدرة العم سام على الاحتمال والتمرير، فغابت مصطلحات النموذج والقدوة، وكادت كلمات مثل “الحليف” تضيع وسط ضجيج التطورات المتلاحقة.
كانت البداية مع أحداث حديقة “جزي” التي جمع لها الإعلام الغربي قضه وقضيضه ليثبت على حلفاء الأمس تهمة العنف مع الشعب والبعد عن الديمقراطية، بينما بدأت دوائر صنع القرار التركية تتحدث على استحياء عن استهداف أو تقصد أو تجنٍ على أنقرة لا تستحقه، بينما يتم التغاضي عن أضعاف ما حصل هنا حين تقوم به حكومات أخرى. ومع خروج التصريحات التركية إلى العلن، بدا وكأن شهر العسل انقضى وأن مرحلة جديدة على الأبواب، بيد أن الخطابات السياسية والبيانات الرسمية لم تسطر هذا التغير بشكل صريح، رغم أن لهجتها اشتدت مع اتهام الحكومة بالفساد المالي.
أما القشة التي قصمت ظهر الحلف بين العاصمتين فكان التحالف الدولي الذي شكلته واشنطن لمكافحة “تنظيم الدولة”، تحت وابل قصف إعلامي يتهم انقرة بدعم الأخير عبر تلفيق بعض الأخبار والصور، رغم قرار تركيا بالمشاركة في التحالف واستصدار إذن من مجلس الشعب بذلك. ثم ختم نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن المشهد باتهامه الرئيس التركي صراحة بدعم الإرهاب، الأمر الذي أظهر إلى أي حد تدهورت العلاقات بين الطرفين رغم الاعتذار الأمريكي الذي حفظ ماء الوجه لكنه لم يرطب الأجواء تماماً.
أما إيران فقد استطاعت تجنب الضربة العسكرية التي لوح بها أوباما ومن قبله نتنياهو، عبر تقديم بعض المرونة والتنازلات في الملف النووي كما كان متوقعاً بعد انتخاب روحاني لرئاسة الجمهورية، وأيضاً عبر تثبيت أوراق قوتها في المنطقة ووضعها على طاولة التفاوض. أنتج ما سبق اتفاق طهران مع دول (5 زائد 1) الذي فتح عهداً جديداً، كان من مفرداته مؤتمر “جنيف 2” وغياب الحديث عن إسقاط نظام الأسد، وغض النظر عن المشروع الإيراني في بعض المناطق والعديد من الأحداث، ليس آخرها التمدد الحوثي في اليمن أمام مرأى ومسمع واشنطن وحلفائها، سيما وأن هتافات “الموت لأمريكا” كانت مقتصرة على القول دون الفعل.
حلفاء جدد
رويداً رويداً، بات البون شاسعاً بين المواقف القديمة والجديدة. لقد قدمت الولايات المتحدة فيما خص سوريا استراتيجية أقرب لعدوها المعلن (إيران) منها لحليفها الإقليمي (تركيا) حين قالت إن خطتها هي الحد من تمدد تنظيم الدولة وليس العمل على إسقاط الأسد، متجاهلة الرؤية التركية وشروطها الثلاثة للتعاون ميدانياً على الأرض مع خطة التحالف. ازداد المشهد سريالية حين أعلنت دمشق على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم (ثم تبعته طهران) الاستعداد للمشاركة في الحملة الدولية على “الإرهاب” حتى لا تعتبرها اعتداءً على السيادة السورية، وكانت المفاجأة أن الرد الأمريكي ترك الباب موارباً وأحياناً ألمح إلى إمكانية ذلك، بينما وشت بعض المناوشات بالمشاركة الإيرانية – سيما في العراق – في الحرب ضد التنظيم.
في تحليل الأسباب، يذهب بعض المحللين إلى القول بأن واشنطن لا تريد لأنقرة أن تبتعد أكثر من ذلك عن محورها ومواقفها، وأن تكف عن التغريد خارج السرب فيما خص قضايا المنطقة وعلى رأسها سوريا ومصر وفلسطين. صمّت إدارة أوباما الآذان عن شَرطي المنطقة الآمنة وحظر الطيران، بينما بدأت الحوار مع أنقرة حول خطة تدريب وتسليح المعارضة السورية “المعتدلة”، رغم أنه ما زال من غير المعروف على أي أساس ووفق أي خطة ستحارب هذه المعارضة بعد تدريبها وتسليحها في ظل خلاف الحليفين.
أكثر من ذلك، أغضبت واشنطن أنقرة حين تجاهلت اعتراضاتها على التعامل مع أكراد سوريا، ونظمت معهم عدة لقاءات معتبرة إياهم “قوات ميدانية” يمكنها المساعدة في الحرب، ضمن حملة التركيز على مدينة عين العرب / كوباني دوناً عن كل الأراضي السورية والعراقية. لاحقاً، ألقت طائرات أمريكية أسلحة ومعونات على المدينة، لم يقل نصيب تنظيم الدولة منها عن نصيب الأكراد، الأمر الذي دعم موقف أنقرة وضعّف من وضع واشنطن، فتوقفت خطة الدعم في انتظار التوافق.
وفي الحقيقة، فقد لعب الطرفان على عامل الوقت. أرادت واشنطن الضغط على أنقرة عبر أكراد الداخل التركي والتهديد بالتحالف مع أكراد سوريا والعراق، وأرادت أنقرة أن تضغط على واشنطن من خلال الفشل في التقدم رغم استمرار الضربات الجوية. أخيراً، وبعد أشهر طويلة، بدا قبل أيام أن تغيراً طفيفاً طرأ على الخطاب الأمريكي حين صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بأن نظام الأسد وتنظيم الدولة مرتبطان ببعضهما البعض ويجب محاربتهما معاً، وإن كانت الأولوية لمحاربة التنظيم لخطره الداهم.
وفي ظل تخوفها من تكرار سيناريو إقليم شمال العراق مع أكراد سوريا بإعلان حكم ذاتي يمهد للاستقلال ويهدد عملية السلام مع أكراد الداخل التركي، لم تبد سعادة أنقرة بالتصريح الجديد كاملة في انتظار التأكد من أمرين. الأول هو تحوله إلى فعل واقعي ومتناسق مع هذه الرؤية على الأرض من خلال السماح بالمنطقة الآمنة (ومن ضمنها حظر الطيران) على الحدود التركية السورية، والثاني التأكد من أنه موقف أصيل صدر عن قناعة وليس مجرد وسيلة ضغط على طهران قبل اجتماعها المرتقب بخصوص ملفها النووي في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، سيما وأن أصداء خطاب أوباما إلى خامنئي المسرب عمداً إلى وسائل الإعلام ما زالت تتردد في الأجواء.
هكذا، يبقى علينا أن نتابع تطورات الأيام المقبلة في العاصمتين الإقليميتين لنرى هل تتحقق فعلاً الانفراجة التي ترغب بها طهران ضمن صفقة شاملة مع واشنطن تشمل الملف النووي والثورة السورية وعدداً من القضايا الإقليمية (على رأسها اليمن)، أم تتعقد المفاوضات فتعود واشنطن لسياسة العصا بعد فشل الجزرة فتكون النتيجة تسريع التوافق مع تركيا والبدء بخطوات عملية على الأرض السورية، أم يتراوح الحل بين هذا وذاك تحت عنوان التمديد والتأجيل.
وفي كل الأحوال تحتاج الولايات المتحدة إلى قوى حليفة لها لا تستطيع تنفيذ سياساتها الإقليمية بدونها، لكن يبقى السؤال، هل ستستمر نفس التحالفات القديمة (بنفس الصيغة أو ببعض التعديل)، أم إن حلفاء جدد (إيران و/أو الأكراد) سيأخذون مكان أنقرة ويدخلون اللعبة بعد أن قدموا بعض أوراق اعتمادهم.؟!