هل تتحول تركيا لدولة عبور للطاقة لأوروبا؟

هل تتحول تركيا لدولة عبور للطاقة لأوروبا؟

الجزيرة نت

 

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن بلاده قد تعيد توجيه إمدادات الغاز الخاصة بخط “نورد ستريم” إلى البحر الأسود وتحويل تركيا لدولة ممر للغاز الروسي نحو أوروبا بعد إنشاء مركز رئيسي للغاز الأوروبي على أراضيها.

المقترح، الذي وصفه الكثيرون بالمفاجأة من العيار الثقيل وقابلته تركيا بالترحاب وأوروبا بالتشكيك، يفتح نقاشاً مطولاً حول جدوى الفكرة وإمكانية تطبيقها وكذلك انعكاساتها على اقتصاد تركيا وعلاقاتها مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي.

 

تركيا والطاقة

لتركيا مع الطاقة قصة شائكة ومعقدة. فهي، كدولة إقليمية صاعدة، في حاجة ماسة للموارد الأولية ولا سيما مصادر الطاقة، إلا أنها لا تمتلك إلا القليل منها. فتركيا تعتمد على الاستيراد لتأمين زهاء %71 من حاجتها من موارد الطاقة وفق أرقام مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، وترتفع هذه النسبة بخصوص الغاز الطبيعي لتصل إلى %99.

كلفت فاتورة الطاقة تركيا 28.9 مليار دولار عام 2020، وارتفعت الكلفة إلى 50.7 مليار دولار عام 2021 بزيادة %75، ويتوقع أن تكون التكلفة أكبر هذا العام على هامش ارتفاع أسعار مواد الطاقة بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية. وبهذا تأتي موارد الطاقة في مقدمة البنود التي تساهم في عجز الحساب الجاري التركي.

كما أن هذه الدرجة المرتفعة من الاعتماد على الخارج في موارد الطاقة قد يكون لها أثمان سياسية، لا سيما وأن تركيا تختلف في بعض ملفات السياسة الخارجية مع دول تتقدم قائمة مورّدي الطاقة لها، مثل روسيا وإيران.

ولذلك فقد عملت تركيا على مدى سنوات طويلة على تقليل اعتمادها على الخارج فيما يتعلق بمواد الطاقة من جهة وتنويع مصادر الاستيراد من جهة ثانية. شمل ذلك زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة وخصوصاً الشمسية، وزيادة الاستيراد – وخصوصاً الغاز الطبيعي – من دول أكثر قرباً من تركيا في السياسة الخارجية مثل أذربيجان وقطر، وزيادة وتيرة البحث عن مصادر ذاتية للطاقة. وفي هذا الإطار الأخير تحديداً تقع أنشطة تركيا للبحث والاستكشاف والتنقيب عن موارد الطاقة ولا سيما الغاز في شرق المتوسط والبحر الأسود.

على مدى سنوات العقد الماضي، وضعت تركيا ملف الطاقة في مقدمة أولوياتها وبات ملف شرق المتوسط على وجه التحديد على رأس ملفات السياسة الخارجية العديدة والمتشابكة، متقدماً في السنوات القليلة الماضية على القضية السورية والنزاع في جنوب القوقاز وغيرها من الملفات، إذ تنظر إليه أنقرة من زاوية أمن الطاقة أولاً والتنافس الجيوسياسي في المنطقة مع أطراف أخرى ثانياً.

وقد زاد من أهمية هذا الملف اكتشافات تركيا من الغاز الطبيعي في البحر الأسود، والتي تعِدُ الحكومة بأن تكون في المتناول العام المقبل (2023) وهو عام مئوية تأسيس الجمهورية وكذلك عام الانتخابات التي توصف بالمفصلية.

ومن جهة ثانية، ما تزال تركيا تأمل بحل النزاع في شرق المتوسط بالطرق السلمية، مقترحة عقد مؤتمر دولي تشارك فيه كل الدول المطلة على شرق المتوسط للتوافق على كيفية ترسيم الحدود البحرية وتقاسم الثروات.

وضمن مساعيها في هذا الملف، ما تزال أنقرة تبحث عن شركاء في شرق المتوسط، خصوصاً بعدما بعد إعلان منتدى غاز شرق المتوسط بداية العام 2019، والذي تجاهل حقوقها ومصالحها رغم أنها تملك الساحل الأطول عليه، وقد ردت عليه باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في خريف العام نفسه.

وأخيراً، ما تزال أنقرة تحلم وتأمل في أن تتحول لدولة عبور للطاقة للقارة الأوروبية، وما زالت في هذا الإطار تسعى لإقناع مصر بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فضلاً عن مقترحها لدولة الاحتلال لاعتماد مشروع لنقل الغاز “الإسرائيلي” إلى أوروبا عبر تركيا وليس اليونان، لا سيما بعد تراجع الدعم الأمريكي لمشروع “إيست – ميد”.

 

المقترح الروسي

قال بوتين إن بلاده على استعداد لاستئناف تصدير الغاز لأوروبا بواسطة خط نورد ستريم 2 عبر بحر البلطيق، وإن تركيا يمكن أن تكون خياراً لمد أوروبا بالغاز من خلال إنشاء مركز لتوزيع الغاز يساهم في النقل وتحديد السعر.

ولئن رأى الرئيس الروسي أن المقترح آمن بمستوى مرتفع وذو جدوى اقتصادية، فإن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز رآه “ممكناً، ولكن يحتاج لتقييم شامل من النواحي القانونية والتقنية والتجارية” وأنه من السابق لأوانه إصدار تقدير بخصوصه. في المقابل، فإن الرئيس التركي بدا أكثر حماسةً، فأصدر تعليماته للوزارة ببدء العمل على المشروع والتعاون مع المؤسسات الروسية، مشيراً إلى أن منطقة “تراقيا” شمال غرب البلاد هي المنطقة الأنسب له.

في أولى ردات الفعل الأوروبية، قالت الرئاسة الفرنسية في بيان لها إن مقترح الرئيس الروسي “لا معنى له” في ظل سياسة الاتحاد الأوروبي تقليص الاعتماد على غاز بلاده، مضيفةً أن الاتحاد لن يكون أحد مستوردي الغاز الروسي عبر تركيا إن نفذ المشروع.

لا شك أن مشروعاً من هذا القبيل إن قدر له الانتقال إلى الحيز العملي سيكون له انعكاسات إيجابية على تركيا. فعلى المستوى الاقتصادي، لن تعاني من شحٍّ أو تقلق بخصوص ما تحتاجه من الغاز الطبيعي، وستحصل على أسعار تفضيلية، فضلاً عن عائدات نقل الغاز لأوروبا على اقتصادها. وعلى الصعيد السياسي، فإن ذلك مكسب يضاف لما أنجزته من اتفاقات ووساطات منذ الحرب الروسية – الأوكرانية. واستراتيجياً، من شأن ذلك أن يعزز من الأدوار التي تلعبها في المنطقة والعالم ويمنحها أوراق قوة إضافية مقابل الاتحاد الأوروبي في المقام الأول.

فنياً وتقنياً، تبدو تركيا قادرة على الإيفاء بمتطلبات المشروع من خلال خط السيل التركي الذي تبلغ قدرته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنوياً، ما يمكن أن يكفي حاجة دول شرق وجنوب أوروبا بالكامل وفق بعض التقارير. ولكن ذلك سيحتاج لبناء مركز غاز بسعة عالمية وليس محلية وفق الرئيس التركي، وهو ما سيحتاج وقتاً وتمويلاً، إن ثبتت جدواه الاقتصادية.

العائق الرئيس أمام المشروع هو فجوة الثقة بين روسيا والدول الأوروبية، إذ أن المقترح أتى على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية وبعد اسهداف خط نورد ستريم الذي اتهم بوتين الولايات المتحدة بالوقوف خلفه. ولعل ارتباط المشروع بتركيا كذلك سيكون سبباً إضافياً لبعض الدول لترفضه، كما فعلت فرنسا التي صدر عنها أول موقف تجاه المشروع.

فهل المشروع محكوم بالفشل قبل بدايته؟

ليس بالضرورة. ذلك أنه، وبعد دراسات الجدوى ولا سيما من الزاوية التجارية البحتة، سيخضع لتفاعل عدة عوامل في مقدمتها مآلات الحرب في أوكرانيا من حيث المدى الزمني وَحِدّة المعارك وكذلك الأطراف المنتصرة والمهزومة. كما أن الأمر مرتبط بشكل مباشر بمدى معاناة أوروبا خلال الشتاء المقبل وبالتالي تقييم جدوى تخفيض استيراد الغاز الروسي. ومن تلك العوامل مدى وحدة الموقف الأوروبي داخل الاتحاد بخصوص المشروع لا سيما بعد تقدم اليمين في بعض دوله. وأخيراً، لا شك أن علاقات تركيا مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي مؤثرة أيضاً ولو بشكل غير مباشر على آفاق المشروع.

وعليه، من الصعب الجزم بمدى جدوى المشروع وآفاق نجاحه في المستقبل، في ظل ضبابية المشهد المتعلق بالحرب وتداعياتها على أوروبا، وخصوصاً أن إنشاء المركز سيحتاج لمدى زمني قد تتغير خلاله الظروف بهذا الاتجاه أو ذاك.

لكن في الخلاصة، إذا ما تراجع منطق تسييس ملف الغاز/الطاقة بين روسيا وأوروبا على صعيد السياسات الروسية و/أو الانطباعات الأوروبية، فإن ذلك مما قد يشجع على مشروع من هذا النوع، لا سيما إذا ما استمرت التهديدات التي تواجه خط نورد ستريم.

وأخيراً، فإن مشروعاً طموحاً من هذا النوع إن تحقق قد يكون له تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على علاقات تركيا بكل من روسيا وحلفائها الغربيين، توثيقاً للعلاقة مع الأولى وتعميقاً للشكوك لدى الآخرين، الذين يعبّرون صراحة عن تحفظهم على عدم مشاركة تركيا بشكل فاعل في العقوبات على روسيا وقد ينظرون للمشروع على أنه دعم تركي إضافي لروسيا ولو بشكل ضمني، رغم ما تقدمه أنقرة من مسوغات قانونية وسياسية واقتصادية لموقفها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

الانتخابات التركية: رهانات أردوغان مقابل رهانات المعارضة

المقالة التالية

حماس إذ تعترف بـ"الهزيمة"

المنشورات ذات الصلة