على مدى اليومين الماضيين، ملأت تركيا الدنيا وشغلت الناس بأخبارها وتطورات أحداثها وشوارعها التي امتلأت بالمتظاهرين. التطور السريع للأحداث دفع البعض (اقتناعاً أو أملاً) أن يطلق عليها مصطلح “الربيع التركي”، ليملأ فضاءات واسعة من الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي. فما هي حقيقة ما حصل؟
المشروع -الأزمة
تنفذ بلدية اسطنبول الكبرى مشروعاً (مرَّ عبر البرلمان ووافق عليه حزب المعارضة الأبرز) لتحديث ميدان “تقسيم” الشهير وسط المدينة، لإعادة بناء قلعة عثمانية هدمت، وليكون ميداناً أنسب للمارة، تتضن بعض مراحله “نقل” بعض الأشجار إلى مكان آخر (اقتلاع خمس أشجار وإعادة غرسها في مكان آخر). تناقت بعض الأوساط أن الحكومة تنوي إزالة المنتزه بأكمله لإقامة مركز تجاري كبير هناك. اعتصم مئات الشباب من نشطاء حماية البيئة وبعض اليساريين للمطالبة بعدم قطع الأشجار. في اليوم الرابع للاعتصام (الجمعة) بادرت الشرطة لفض الاعتصام بالقوة مستخدمة القنابل المسيلة للدموع، مما أدى لبعض الإصابات.
تراكمات واحتقان
تشعر المعارضة التركية منذ سنوات طويلة بعجزها عن تسلم الحكم عبر صناديق الانتخابات، وترى أن شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم في ازدياد مضطرد من انتخابات لأخرى. فإذا ما أضفنا إلى ذلك سلسلة من السياسات والقوانين التي قامت بها الحكومة أو سنها البرلمان، فسنجد أن المعارضة وقواعدها الشعبية باتت تشعر بقلق متزايد من تفرد اردوغان وحزبه بالحكم، ومحاولاته فرض ثقافة دينية معينة على الشعب حسب زعمهم. كانت آخر هذه التشريعات تحديد أوقات بيع الخمور ومنع الترويج لها وزيادة الضرائب عليها. عامل مهم آخر كان انتهاء لجنة التوافق على الدستور المؤلفة من أحزاب البرلمان من عملها قبل أيام دون التوافق على أغلب مواده، وإعلان اردوغان أنه قد يضطر لعرض الدستور على الاستفتاء بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام المقبل.
السياسة الخارجية
ربما لا يقل أهمية عن هذه الملفات الداخلية موقف الحكومة التركية الحالية من الأزمة السورية، وانتهاجها سياسة لا تتوافق مع كثير من حلفائها وخصومها (الولايات المتحدة، إيران) ولا ترضي أحزاب المعارضة في الداخل. تفجير الريحانية وأحداث أمنية أخرى كانت مؤشراً على أن تركيا ستعاني من جراء مواقفها، وستتعرض لضغوطات كبيرة لتغيير سياساتها. إضافة إلى ذلك، فإن ملف المصالحة الوطنية مع المكوّن الكردي، وإلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح، واستمرار “عملية السلام” دون عوائق ملحوظة، كل ذلك سحب ورقة ضغط مهمة من يد كثير من اللاعبين المحليين والإقليميين. لذلك كان السؤال المطروح هو: ما هي الخطوة اللاحقة؟؟
من الدفاع إلى الهجوم
كشفت أجهزة الأمن أن عناصر يسارية وأخرى مرتبطة بأكبر أحزاب المعارضة (حزب الشعب الجمهوري) لها يد في تفجير الريحانية، وأنها على تواصل وارتباط مع النظام السوري، مما جعل المعارضة في موقف لا تحسد عليه. فكانت في حاجة شديدة للتخلص من أزمتها بالهجوم نحو الأمام، إلى أن وجدت ضالتها في الأحداث الدائرة في ميدان “تقسيم”، لتنقل الحكومة من موقف القوي المهاجم إلى موقف الضعيف المدافع. ولذلك فقد كان ملفتاً للنظر انتشار المظاهرات في عدة مدن، بل في خارج تركيا، خلال ساعات قليلة، بالتزامن مع حملة إعلامية تحريضية تعمدت اختلاق الأخبار والمبالغة في أعداد الضحايا (لم تحصل حالة وفاة واحدة) والجرحى.
الإعلام العربي
احتفت النخب ووسائل الإعلام العربية ومثيلاتها الغربية بتطورات الوضع في تركيا، وواكبتها على مدار الساعة، وأطلقت العديدُ من وسائل الإعلام على الأحداث اسم “الربيع التركي”، في حين اكتفت معظم وسائل الإعلام التركية (ومنها المعارضة) بالتغطية العادية. وهنا لا بد من تسجيل النقاط التالية:
-معنى ووقع المظاهرة (والحشد) في تركيا مختلف عنه في الدول العربية حيث يمنع التظاهر وتحرّم التجمعات، بينما تشهد تركيا مظاهرات على مدار العام. وقد شهدت عبر تاريخها عشرات المظاهرات الحاشدة، منها مظاهرة القدس التي خرج بها نصف مليون شخص في ثمانينات القرن الماضي، ومظاهرات التنديد بالعدوان على غزة عام 2008 والتي خرج فيها أكثر من مليون إنسان، ومظاهرات “الجمهورية” التي نظمتها المعارضة في بدايات حكم العدالة والتنمية وخرج فيها مئات الآلاف.
-أظهرت الأحداث اهتمام الجميع بتركيا، وانقسامهم إلى قسمين: الأول قلق على تركيا، الدولة والدور والنموذج المرسوم لديه، فأنكر وجود الأزمة من أساسها، والثاني أراد أن تشرب تركيا من نفس كأس الثورات، فحاول تصوير الأمر على أنه ثورة عارمة على دكتاتور اقتربت نهاية حكمه.
-ابتعاد معظم وسائل الإعلام العربية عن الموضوعية والشفافية، ليس فقط في التحليل والاستقراء، بل أيضاً في المعلومات والتفاصيل.
مآلات المظاهرات
كما أدى العنف الذي انتهجته الشرطة في اليوم الأول إلى غليان الشارع وخروج أكثر من 90 مظاهرة في عشرات المدن، ساهمت الحكمة التي اتبعتها أمس واليوم على تخفيف هذا الاحتقان. وكما ساعدت الأخبار الملفقة على حشد الناس، ساهم كشفها على انفضاض الكثيرين منهم. لذلك قلـَّت الأعداد وخفـَّت الحشود في الميادين المختلفة. ومع انتهاء عطلة نهاية الأسبوع، ستكون الأمور مرشحة للانحسار التدريجي، لتتركز في اسطنبول (مركز الحدث والأقدر على الحشد)، ثم تتحول إلى تواجد رمزي فيها، سيّما وأن المحكمة الإدارية جمدت المشروع في المرحلة الحالية.
الرسائل وصلت
هدوء الأمور لا يعني أنها فشلت في إيصال رسالتها للجميع. فالحكومة رأت بأم عينها مقدار غضب المعارضة إزاء بعض سياساتها، والمعارضة تأكد لها مرة بعد أخرى أن الصناديق هي الوحيدة الكفيلة بإسقاط حكومة منتخبة من أغلبية. وعليه، فإن انحسار الأحداث لا يعني أنها لن تتكرر، لكنها بالتأكيد ستبقى ضمن إطار اللعبة الديمقراطية معروفة التوصيف محددة السقف، بين الحكم والمعارضة.
المدهش في الأمر أننا ما زلنا في العالم العربي نرى أحداث العالم بعيوننا نحن، ونريد أن نلبس كل الأحداث عباءة فهمنا وأمنياتنا. لا شك أن الأحداث الأخيرة قد سلطت الضوء أكثر على تركيا، وجعلتها في بؤرة الاهتمام، لكنها كانت أبعد ما يكون عن مسمى ثورة أو ربيع. إذ ما نعرفه أن الربيع يمتد على عدة شهور (جغرافياً)، أو بضعة سنوات (سياسياً)، وليس سويعات معدودة.