هل انتهت التفاهمات التركية – الروسية في سوريا؟

هل انتهت التفاهمات التركية – الروسية في سوريا؟

TRT عربي

تمر التفاهمات التركية – الروسية في سوريا في مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد بعد حادثة استهداف القوات التركية ومقتل العشرات من الجنود الأتراك في إدلب. الأزمة الأكبر بين الطرفين منذ أزمة إسقاط المقاتلة الروسية خريف 2015 ما زالت تتفاعل وتتفاقم دون أن يستطيع الجانبان التوصل لتفاهمات جديدة.

فقد انتهت عدة جولات من المحادثات بينهما في أنقرة ثم موسكو ثم أنقرة مجدداً، وبينها اتصالان بين الرئيسين اردوغان وبوتين، لكنهما لم يعلنا أبداً – حتى اللحظة – توصلهما لاتفاق جديد أو تثبيت اتفاق سوتشي الذي وقعاه في أيلول/سبتمبر 2018، رغم أنهما متفقان في المجمل على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار، ورغم إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار عن حدوث تقدم ما في المحادثات الأخيرة.

كان هناك – وما زال – حرص تركي روسي على تجنب المواجهة المباشرة بينهما لاعتبارات عديدة، بل كان هناك حذر تجاه التصريحات والمواقف الأمريكية خشية من أن تدفع نحو الصدام بينهما، فضلاً عن احتمالية تسبب أطراف ثالثة يصعب ضبطها في الميدان باحتكاك بين الجانبين. لكن الصورة اليوم هي تصعيد غير مسبوق بأدوات روسية.

قبل استهداف الجنود الأتراك صدرت موسكو موقفين لافتين. الأول نفي احتمالية لقاء الرئيسين بوتين واردوغان رغم حديث الأخير عن ذلك بناء على طلب من بوتين نفسه كتفضيل للقاء الثنائي على القمة الرباعية التي اقترحها الثنائي الألماني – الفرنسي. والثاني الادعاء بأن جنوداً أتراك استهدفوا المقاتلات الروسية بمضادات الطيران، وهو ادعاء غير مسبوق بخصوص القوات التركية بغض النظر عن مدى صحته. كما أنه حصل بعد تقدم المعارضة السورية بدعم تركي واضح واستعادتها عدة مناطق في مقجدمتها سراقب الاستراتيجية في ظل تكذيب ونفي من موسكو حتى اللحظة الأخيرة.

سريعاً بعد هذين الموقفين أتى استهداف الجنود الأتراك، الذين تواجدوا في مبنى ولم يكونوا في حالة حركة او انتقال ما يعزز من فرضية التعمد باستهدافهم وقتل أكبر عدد منهم ضغطاً على أنقرة.

لم تحمل أنقرة موسكو مسؤولية ما حدث وإنما وجهت أصابع الاتهام صراحة للنظام، ولم تكتف بذكر “القصف من الجو” كما فعلت سابقاً، وقد أ‘لنت أنها ردت – وما زالت – على استهداف جنودها من خلال ضرب قواته في مختلف نقاط تواجدها وليس فقط في إدلب، فضلاً عن بيان وزارة الدفاع التي رصدت خسائره منذ العاشر من شباط/فبراير والتي شملت تدمير 3 مروحيات و55 دبابة و23 مدفعاً وأنظمة دفاع جوية فضلاً عن تحييد 1709 من جنود النظام.

في المقابل، نفت وزارة الدفاع الروسية أن تكون هي من استهدف الجنود الأتراك، بل حملت أنقرة مرة أخرى المسؤولية من باب أنها لم تنسق كما يجب معها، وهو الادعاء الذي نفاه وزير الدفاع التركي مؤكداً مشاركة كافة الإحداثيات مع الطرف الروسي.

التسليم بفرضية عدم تورط موسكو بعملية القصف، وفق النفي الثنائي منها ومن أنقرة، لا يلغي تماماً مسؤوليات واقعة على عاتقها بالنسبة لأنقرة. فموسكو هي من تملك قرار النظام خصوصاً في الشق الميداني بشكل كامل، ومطلعة على إحداثيات القوات التركية الموجودة على الأراضي السورية لتجنب استهدافها، وهي التي تتحكم بالأجواء السورية في منطقة إدلب تحديداً، والسلاح الذي يقاتل به النظام سلاحها في نهاية المطاف، فضلاً عن أنها هي الطرف الضامن للنظام وفق مسار أستانا واتفاق سوتشي ما يعني أنها تتحمل مسؤولية في ضبط أدائه الميداني لا سيما في مواجهة الدولة الضامن الأخرى وهي تركيا.

يرفع كل ذلك من احتمالات المواجهة بين الطرفين رغم رغبتهما في تجنبها، إن كان من خلال تدحرج الأحداث بشكل غير مقصود، أو عبر الخطوات والخطوات المقابلة، او حتى عبر تدخل أطراف ثالثة. ورغم ذلك، فقد استمر التواصل بين الجانبين من خلال الاتصال الهاتفي بين بوتين واردوغان والذي أكدا خلاله على ضرورة التهدئة وأعلن الكرملين بعده عن احتمال لقائهما في موسكو بداية آذار/مارس.

يعني هذا أن التفاهمات التركية – الروسية لم تنهر تماماً، رغم أن اتفاق سوتشي بذاته في عداد الملغى بعد كل هذه التطورات الميدانية. فالجانبان يؤكدان ضرورة التوصل لاتفاق أو تفاهمات جديدة، لكن فجوة الثقة بينهما باتت أكبر من أن يمكن تجاهلها. بالنسبة لأنقرة هناك خيبة أمل كبيرة بموقف روسيا التي يفترض أنها شريك ملتزم بتفاهماته معها، لكنها تصرفت بشكل منحاز تماماً للنظام متجاهلة إلى حد كبير مصالح تركيا وتحفظاتها.

في الخلاصة تعرضت التفاهمات التركية – الروسية لهزة كبيرة ستدقع تركيا بالتأكيد لإعادة التفكير فيها وفي مستوى العلاقات مع موسكو، في ظل محاولة أمريكية وأطلسية لاستغلال ذلك. لكن يبدو ان واشنطن تضع بعض الشروط لدعم تركيا في التصعيد الحالي، وهو تراجع الأخيرة عن صفقة إس400، وهو شرط صعب جداً على تركيا تنفيذه بعد إتمام الصفقة ولاعتبارات أخرى.

مواقف الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي التي رأتها تركيا أقا من تواقعاتها منهم تعزز أهمية التوازن في العلاقات بين الطرفين قدر الإمكان. ستبقى تركيا عضواً في الناتو وبالتأكيد فإن الأزمة الأخيرة مع موسكو ستقربها أكثر منه، لكن ليس على قاعدة نقض التفاهمات مع موسكو والنكوص عن العلاقات المتحسنة معها.

هناك تاريخان مهمان لاستجلاء الصورة كاملة بخصوص ذلك، وهما الاول من آذار/مارس حيث تنتاهي المهلة التركية للنظام السورية وبالتالي احتمالية إطلاق أنقرة عمليتها العسكرية في إدلب إن لم تتوصل مع موسكو لاتفاق ما قبل ذلك الموعد، وهو احتمال ما زال قائماً وله فرصته بالتأكيد. والثاني هو نيسان/أبريل المقبل موعد تفعيل منظومة إس400 وبالتالي انعكاس ذلك على موقف الولايات المتحدة والعلاقات مع موسكو.

لكن في كل الأحوال، تبقى التفاهمات بين تركيا وروسيا مصلحة للطرفين، ليست فقط على صعيد العلاقات الثنائية بينهما والتي بلغت مستويات متقدمة على صعيد الاقتصاد والطاقة والتسلح وإنما كذلك على صعيد المسألة السورية. فالتفاهمات تحقق لروسيا ما تريده من تقدم في المسار السياسي ومشاركة المعارضة فيه وضبط اداء الأخيرة، فيما يحقق لتركيا أمن قواتها الموجودة هناك، فضلاً عن مصالح أخرى كثيرة.

وعليه، ختاماً، ما زال الاتفاق بين الطرفين هو المسار المرجح رغم كل ما حدث مؤخراً، بل يمكن عدُّ التطورات الأخيرة رسائل متبادلة وضغطاً يستهدف تحسين شروط التفاوض للتوصل لاتفاق ما. وهذا لا ينفي إدراك تركيا لمدى حاجتها للتوازن قدر الإمكان في علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وروسيا من جهة والاستمرار في تعظيم القدرات الذاتية من جهة أخرى.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

العلاقات التركية الروسية بعد إدلب

المقالة التالية

قراءة أولية في عملية "درع الربيع" التركية

المنشورات ذات الصلة