هل العلاقات التركية – الروسية في أزمة؟
الجزيرة نت
8 آب/أغسطس 2023
تزامنت موافقة تركيا على إحالة ملف عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي (الناتو) للبرلمان مع رفض روسيا تجديد اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود وتأجيل زيارة مفترضة لبوتين إلى أنقرة، ما أثار نقاشاً حول احتمال دخول العلاقات التركية – الروسية في أزمة.
التوازن الصعب
رغم عضوية تركيا في الناتو منذ عشرات السنين وكونها القوة العسكرية الثانية فيه بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها استطاعت في السنوات الأخيرة نسج علاقات أكثر من جيدة مع خصمها التقليدي روسيا. كان ذلك يعني خروج أنقرة من ذهنية الحرب الباردة وبلورة سياسة خارجية مختلفة وفق رؤية تقدّم المصالح التركية في المقام الأول، ولكنه كان كذلك مدفوعاً بعدة أسباب إضافية.
في مقدمة ذلك المصالح المتنوعة التي تجمع أنقرة بروسيا ولا سيما في المجالات الاقتصادية والتجارية، ومنها كذلك انخراطهما في عدة قضايا ونزاعات بشكل مشترك بما فرض ضرورة التفاهم تجنباً لأي صدام غير مرغوب، ثم بانزعاج أنقرة من عدة مواقف لحلفائها الغربيين رأت فيها تخلياً منهم عنها أو حتى طعنة منهم في الخلف لا سيما ما يتعلق بالدعم الأمريكي المستمر للمنظمات الانفصالية شمال شرق سوريا.
ولذلك، ورغم أزمة إسقاط الطائرة الروسية في خريف 2015، وصلت العلاقات التركية – الروسية سريعاً، ولا سيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، إلى مستويات متقدمة ويمكن وصفها بالاستراتيجية في عدة مجالات. فقد طور الجانبان علاقاتهما التجارية والسياحية بشكل ملحوظ، وتعاونا في مشاريع ذات بعد استراتيجي في مجال أمن الطاقة مثل مشروع السيل التركي للغاز الطبيعي ومحطة أك كويو للطاقة النووية ومقترح الرئيس الروسي لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا. كما أبرمت أنقرة مع موسكو صفقة منظومة إس400 الدفاعية والتي سببت شرخاً كبيراً في علاقاتها مع واشنطن، فضلاً عن العلاقات الأكثر من جيدة بين البلدين على مستوى القيادة ومن زاوية العلاقات الشخصية بين أردوغان وبوتين.
من هذه الزاوية، فقد ضيّقت الحرب الروسية – الأوكرانية هوامش المناورة التركية وزادت من الضغوط الغربية عليها فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، ورغم ذلك فقد حافظت على موقف متمايز عن الناتو إلى حد كبير، رافضة الانخراط في العقوبات الغربية على موسكو، وضابطةً حدّة تصريحاتها ومواقفها تجاه روسيا رغم إدانة الغزو، ومستمرة في علاقات جيدة مع الأخيرة رغم كل التطورات. إضافة لانخراطها في وساطة بين موسكو وكييف أنجزت من خلالها بعض الاختراقات مثل جمع وزيري خارجية البلدين واتفاق تصدير الحبوب واتفاق تبادل الأسرى.
رسالة احتجاجية أم أزمة؟
تشكل سياسة توسيع الناتو شرقاً تحدياً كبيراً لروسيا، ولعلها كانت أحد أسباب الحرب الحالية في أوكرانيا. ورغم تبدل نبرة التصريحات الروسية بخصوص تفاصيل هذا الملف مؤخراً إلا أنه لا يمكن التهوين من نظرة روسيا له استراتيجياً. ومع ذلك، لم تشكل موافقة تركيا على انضمام فنلندا للناتو في آذار/مارس الفائت أزمة بين أنقرة وموسكو، حيث كانت الأخيرة قد بدّلت تهديدها بالرد في حال انضمام السويد وفنلندا للناتو إلى الرد في حال نشر أسلحة للحلف على أراضيهما.
بيد أن موافقة تركيا بشكل مبدئي على ملف عضوية السويد وإحالته على البرلمان تزامنت مع مواقف روسية أوحت بموقف مختلف هذه المرة. فقد أعلنت الأخيرة عن عدم رغبتها في تجديد اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وهي خطوة كانت أقدمت عليها سابقاً اكثر من مرة احتجاجاً على السياسات الغربية أو ما ترى أنه تنفيذ غير دقيق للاتفاق لا يراعي الشق المتعلق بها منه، لكنها كانت قد عادت للاتفاق بجهد دبلوماسي تركي في كل مرة.
وإذا كان الإعلان الروسي أحال أسباب الانسحاب على موقف الدول الأوروبية وواشنطن، إلا أن تأجيل زيارة كانت مرتقبة للرئيس الروسي إلى تركيا دفع للتحليل بشكل مخالف وعدِّ الموقف الروسي رسالة احتجاج على تركيا كذلك هذه المرة. فإلى أي مدى يبدو هذا التحليل دقيقاً؟
لا شك أن الموقف الروسي من انضمام السويد وفنلندا للناتو بات أكثر حساسيةً في الأونة الأخيرة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، من جهة التطورات الميدانية المتعلقة بالهجوم الأوكراني المضاد ومن جهة المواقف الغربية من الحرب دعماً وتسليحاً لكييف ولا سيما وفق قرارات القمة الأخيرة للناتو في فيلنيوس، وكذلك من جهة بعض التطورات الروسية الذاتية مثل تمرد فاغنر الأخير وتداعياته.
ولذلك، فإرسال رسالة احتجاج روسية لتركيا بعد الموقف الأخير من السويد جزء من تقدير الموقف ولا شك، إذ ليس هناك سبب آخر واضح لتفسير إرجاء زيارة بوتين – على أهميتها بالنسبة لموسكو – دون إبداء أسباب واضحة فضلاً عن تحديد موعد بديل.
في الثاني من الشهر الجاري أعلنت دائرة الاتصال في الرئاسة التركية عن اتصال هاتفي جرى بين أردوغان وبوتين، وقالت إنهما “توافقا على زيارة الرئيس الروسي لتركيا”، لكنها لم تحدد موعداً لها. وقد حرصت دائرة الاتصال على إعطاء تفاصيل عن المواضيع التي تطرق لها الاتصال وقد كانت كثيرة في مقدمتها الزيارة وكذلك اتفاقية تصدير الحبوب.
وفي حين أكد الرئيس التركي في الاتصال على أهمية عودة روسيا للاتفاق الذي وصفه بأنه “جسر السلام” وعلى أن “توقفه فترة طويلة ليس في صالح أحد، خصوصاً الدول الفقيرة المحتاجة للحبوب”، فقد أكد بوتين وفق الكرملين على استعداد بلاده للعودة للاتفاق “حال تنفيذ الغرب التزاماته ذات الصلة”. كما أشار البيان لاتفاق الطرفين على موصلة الاستعدادات “لاجتماع محتمل” بين أردوغان وبوتين.
في الخلاصة، فإن هناك متغيراً ملحوظاً في العلاقات التركية – الروسية من جهة الأخيرة، تحديداً بعد التطورات الأخيرة في أوكرانيا والموقف التركي من عضوية السويد. لكن هذا المتغير لم يصل ولا نرجح أن يصل قريباً لدرجة أزمة بين الجانبين، فضلاً عن القطيعة. فمن جهة، ثمة مروحة وساعة من المصالح الجوهرية التي تجمع الطرفين، ومن جهة ثانية فالملفات المشتركة التي يتعاون بها البلدان كثيرة أيضاً وانخراطهما معاً في عدة مناطق يجعل أي أزمة حقيقية بينهما باباً محتملاً لمواجهة فادحة الثمن على كليهما، كما أن تركيا حريصة أشد الحرص على الإبقاء على حالة من التوازن النسبي ما أمكن في علاقاتها مع كل من روسيا والولايات المتحدة.
الأهم أن موافقة تركيا على عضوية السويد في الناتو ليست نهائية ولا فورية، بل مرتبطة من جهة بعودة البرلمان التركي للعمل بعد الإجازة في تشرين الأول/أكتوبر المقبل ثم بمسار دستوري سيتطلب وقتاً، وكذلك بمدى قناعة أنقرة بالتزام ستوكهولم ببنود الاتفاق. وبالتالي فعضوية الأخيرة إما غير مضمونة أو بالحد الأدنى قد لا تكون قريبة جداً، ما يفتح مجالاً على الحوار وإمكانية التأثير على القرار، فضلاً عن أن روسيا تدرك أن قدرة أنقرة على مقاومة ضغوط الناتو بهذا الصدد ليست مطلقة لا سيما وأنها كانت تقريباً الدولة الوحيدة الرافضة لذلك وبالتالي فموافقة تركيا ليست موقفاً عدائياً مقصوداً ضدها.
ولذلك، وطالما أن الحرب الروسية – الأوكرانية ما زالت لم تتدحرج نحو مواجهة كاملة وشاملة ومباشرة بين روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة ثانية، وطالما بقي لتركيا بذلك مساحات من المناورة والتواصل والعمل الدبلوماسي مع الجانب الروسي، فإنه من المستبعد وصول العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى أزمة كبيرة أو حقيقية، ما يبقي ردة الفعل الروسية الأخيرة في نطاق رسالة الاحتجاج أو العتب تحت سقف منظومة العلاقات القائمة ويفتح الباب على إمكانية حلحلتها في المدى المنظور.