في معرض حديثه عن الخطوات السياسية المرتقبة من قبله بعد الانتخابات، قال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان: “وفقاً للتقاليد وأخلاقيات العمل السياسي، سأكلف بتشكيل الحكومة رئيسَ الحزب الأول وفق نتائج الانتخابات، فإن فشل في تشكيلها فساكلف رئيس الحزب الثاني، فإن مرت مهلة الـ 45 يوماً الدستورية دون تشكيل الحكومة سيكون أمامي خيار الانتخابات المبكرة، والتي هي في الحقيقة إعادة للانتخابات”. فهل هذا التوصيف دقيق؟
يبدو التوصيف للوهلة الأولى دقيقاً حال الحديث عن الحكومة، إذ أن الانتخابات المبكرة قد تبلور مشهداً سياسياً جديداً بتوازنات ومعادلات مختلفة في البلاد، تمكن من تشكيل حكومة بصيغة مختلفة عن السيناريوهات المتاحة حالياً. قد يعود العدالة والتنمية للأغلبية، وقد لا يستطيع الشعوب الديمقراطي تخطي العتبة الانتخابية، وقد تتغير نسب التصويت لكل الأحزاب المشاركة في الانتخابات ويدخل البرلمان أحزاب غير الأربعة الحالية، وقد يخرج منه أحدها، وقد يبقى الحال بالطبع على ما هو عليه. إذاً، نظرياً، فالانتخابات المبكرة فعلاً إعادة للانتخابات من نقطة الصفر فيما خص الحكومة، وهذا هو البعد الذي يحوز على اهتمام المتابعين، لكن ثمة بعد آخر لا يُنتبه له كثيراً، وهو البرلمان نفسه.
صحيح أن الانتخابات المبكرة ستفرز مجلسَ شعبٍ جديداً وسيفقد المجلس الحالي وصفه وشرعيته وصلاحياته، إلا أن ذلك لا يعني أن البرلمان الحالي فاقد الشرعية أو الصفة أو الصلاحيات. بالعكس تماماً، فهو برلمان منتخب يملك كامل الصلاحيات، وقد بدأ فعلياً دورته البرلمانية بأداء النواب للقسم، وبدء الترشيح لانتخاب رئيس البرلمان وديوانه ولجانه.
يـُنتخب رئيس البرلمان بالاقتراع المباشر من قبل النواب، وسيبقى أكبر الأعضاء سناً – دنيز بايكال، رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق، وأحد المرشحين للمنصب بالمناسبة – يدير الجلسات بشكل مؤقت حتى ذلك الحين. ويتم الانتخاب على أربع جولات كحد أقصى، إذ يُشترط الحصول على نسبة الثلثين في الجولة الأولى ثم نفس النسبة في الجولة الثانية، ثم نسبة النصف زائد واحد في الجولة الثالثة، فإذا لم تحسم هذه الجولات الثلاث الأمر يجري الاقتراع بين المرشحَيْن الأعلى أصواتاً في الثالثة ويفوز بالمنصب من يحصل منهما على عدد الأصوات الأعلى، بغض النظر عن النسبة والعدد.
والحال كذلك، ووفق المعادلات الحالية في البرلمان وخلافات الأحزاب المختلفة، فجميع السيناريوهات ممكنة ولكن لا يتوقع أن ينتهي الأمر في الجولتين الأولى والثانية (فذلك يتطلب اتفاقاً بين العدالة والتنمية وحزبين آخرين على الأقل)، كما أن فرص الحسم في الجولة الثالثة ضئيلة إلا إن كانت جزءاً من صفقة تخص تشكيل الحكومة الائتلافية (إذ يتطلب ذلك اتفاقاً بين أحزاب المعارضة الثلاثة، أو اتفاق العدالة والتنمية مع أحد الأحزاب).
ستجرى الجولتان الأولى والثانية من انتخاب رئيس البرلمان الثلاثاء القادم (30/06)، بينما ستجرى الجولتان الثالثة والرابعة (حال الحاجة إليهما) يوم الخميس بعد القادم (02/07). وغالب الظن أن يبقى الأمر للجولة الرابعة، وهنا تلوح للعدالة والتنمية فرصة الفوز بالمنصب مرة أخرى، كما هي ممكنة أيضاً بالنسبة لمرشحي الأحزاب الأخرى. لكن انتخاب رئيس البرلمان ومساعديه وديوانه ليس كل الحكاية، بل مجرد البداية.
ذلك أن البرلمان سيعمل ويملك مطلق الصلاحية حتى انتخاب برلمان جديد، المتوقع في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر على أقرب تقدير، وذلك يعني حوالي خمسة أشهر كحد أدنى في برلمان لا يملك فيه العدالة والتنمية الأغلبية التي كان يتمتع ويتمترس بها من قبل. وبالتالي، فأمام أحزاب المعارضة – إن اتفقت – فرصة ذهبية لسن العديد من القوانين والتصويت عليها حتى ذلك الحين.
ولئن كانت المعارضة مختلفة حول العديد من القضايا وأهمها برنامج الحكومة وعملية السلام مع الأكراد، إلا أنها قد تتفق على ملفات محددة بعينها لم تكن تستطيع تمريرها في الفترة البرلمانية السابقة. يأتي في مقدمتها ملف اتهامات الفساد بحق أربعة وزراء سابقين حال العدالة والتنمية دون تحويلهم إلى المحكمة العليا، وتعهدت كل احزاب المعارضة في دعايتها الانتخابية بإعادة فتح ملفهم. والحال كذلك، يتوقع أن يكون أحد أول القرارات التي قد يصوت عليها البرلمان الجديد هو تقديم الوزراء للمحكمة العليا، بغض النظر عن قرارها النهائي بالإدانة او البراءة، وهو ما سيتعبر نقطة مهمة للمعارضة – السابقة – في وجه العدالة والتنمية.
ملف آخر قد تطرحه الأحزاب الممثلة في البرلمان على التصويت هو مادة “العتبة الانتخابية” التي كانت محور الانتخابات السابقة، والتي تشترط الحصول على نسبة %10 من الأصوات لدخول البرلمان. وكان العدالة والتنمية – المستفيد الأكبر حالياً منها – قد اقترح على الأحزاب الأخرى في الفترة البرلمانية السابقة تعديلها إلى %5 أو إلغائها تماماً، لكنه قرنها بالتوافق على الدستور الجديد. اليوم، تملك هذه الأحزاب طرح الأمر وتغيير المادة، اللهم إلا أن ذلك قد لا يفيدها بل يصب في مصلحة الحزب الحاكم استراتيجياً، باعتبار أن هذه المادة تحديداً هي ما دفع الكثيرين للتصويت للشعوب الديمقراطي حتى يدخل البرلمان، فيما سيفقد الأخير هذه الزخم في حال تعديل المادة ويعود لحجمه الطبيعي، وربما يخسر أصوات الكثيرين من الأكراد أنفسهم – سيما الإسلاميين منهم – لصالح العدالة والتنمية مرة أخرى.
وهكذا، يمكن للبرلمان الجديد أن يطرح ما يريد من مسَوَّدات قرار حتى ولادة برلمان جديد في أي انتخابات قادمة، في ظل تفوق المعارضة الحالية على العدالة والتنمية عددياً، وهذا أمر لن يتغير في حال تشكيل حكومة مؤقتة تجهّز للانتخابات، بل يبقى البرلمان صاحب شرعية وصلاحية حتى انتخاب برلمان غيره، ويظل الأمر مرتبطاً فقط بمدى توافق الأحزاب المختلفة على الملفات والقرارات التي ستطرح.
وإضافة إلى أن هذا الخيار سيفعّل فقط في حال فشل تشكيل الحكومة، يبقى هناك أمر أخير مهم، وهو الصلاحيات التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية بتوقيع وإنفاذ قرارات البرلمان أو رفضها وردها لإعادة النظر فيها، وهو ما قد يشكل ضمانة نسبية للحزب الحاكم، لكنه لا يلغي الفكرة من أساسها ولا إمكانيات استثمارها. فالانتخابات القادمة إذاً في حال لم تتشكل حكومة خلال 45 يوماً لن تكون محض إعادة للانتخابات الحالية، بل هي انتخابات مبكرة سيعمل حتى تاريخها البرلمانُ الحالي بكل أريحية وصلاحيات، وبكل ما قد يحمله ذلك من مفاجآت.