هل اقتربت العملية العسكرية التركية في سوريا؟
الجزيرة نت
تواترت في الأيام القليلة الأخيرة تصريحات رسمية تركية توحي بشن عملية عسكرية جديدة في الشمال السوري ضد وحدات حماية الشعب ”الكردية“، وهي العملية التي تصر أنقرة على ضرورتها وتلوح بها بين الحين والآخر.
العمليات التركية
بعد التورع لسنوات عن دخول ما أسماه البعض ”المستنقع السوري“ خشية من التورط والاستنزاف، أطلقت تركيا أولى عملياتها العسكرية في سوريا ”درع الفرات“ في آب/أغسطس 2016، بعد زهاء شهر ونصف فقط من المحاولة الانقلابية الفاشلة في الداخل. ورغم أن هدف العملية المعلن كان مكافحة ”داعش“ وباقي المنظمات الإرهابية، إلا أن الغاية الرئيسة لهذه العملية وتالياتها كانت منع تأسيس كيان سياسي ذي علاقة بحزب العمال الكردستاني، بعد أن كانت عملية التسوية في تركيا قد انتكست واستأنف الأخير عملياته العسكرية بالتوازي مع إعلان الإدارات الذاتية في الشمال السوري على ثلاثة ”كانتونات“ قرب الحدود التركية.
قطعت العملية الأولى التواصل الجغرافي بين الكانتونات في الشرق والغرب، ثم قضت العملية الثانية ”غصن الزيتون“ في كانون الثاني/يناير 2018 على وجود وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين في الغرب.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، أي قبل عامين بالضبط من الآن، نفذت تركيا عملية ”نبع السلام“ في مناطق شرق الفرات بهدف إبعاد مقاتلي الوحدات 30 كلم عن الحدود التركية – السورية وتأسيس منطقة آمنة هناك، وهي العملية التي انتهت بتفاهمات تركية مع كل من موسكو وواشنطن تعهدتا ضمن بنودها بإبعادهم. ثم كانت العملية الأخيرة، ”درع الربيع“، في آذار/مارس 2020 في إدلب بعد استهداف القوات التركية ومقتل العشرات من الجنود الأتراك على يد النظام السوري وفق الرواية الرسمية التركية.
أهداف لم تكتمل
بنتيجة العمليات العسكرية الكبرى الأربع، وإجراءات وتحركات أصغر حجماً وأثراً، حققت أنقرة إنجازات مهمة على صعيد مكافحة الأذرع السورية لحزب العمال الكردستاني، من بينها إنهاء وجودها في عفرين، ومنع وصولها للمتوسط، وإبعاد مقاتليها عن الحدود، ومناطق سيطرة واسعة لتركيا وفصائل المعارضة السورية القريبة منها، لكنها لم تصل لغاياتها النهائية. فلا هي أنهت وجود هذه المنظمات بالكامل، ولا هي أبعدتها عن كامل حدودها مسافة 30 كلم، ولا استطاعت منع هجماتها على قواتها ومناطق سيطرتها في الشمال السوري، فضلاً عن بقائها في مناطق شرق الفرات بفضل الدعم والتسليح والتدريب الأمريكي في المقام الأول.
ولذلك فقد بقي ضمن الأهداف المرحلية لتركيا في سوريا إخراج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من تل رفعت تحديداً، واستكمال الجهد في إبعاد عناصرها إلى عمق الأراضي السورية على طول الحدود، وإضعافها في مناطق شرق الفرات، فضلاً عن المجالات غير العسكرية مثل الجهد المبذول مع الولايات المتحدة لثنيها عن مسار التعاون معها.
ولذلك تلوح تركيا دائماً بعملية عسكرية جديدة في سوريا لاستكمال هذه الأهداف، وخصوصاً منطقة تل رفعت، لا سيما وأن هناك قناعة لديها بأن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا تماطلان في تنفيذ التعهدات بإبعاد قوات قسد عن الحدود بهدف الضغط عليها، أي على تركيا، رغم تضامنهما الظاهر معها لدى تعرض جنودها للاستهداف.
لطالما كانت القوات التركية المتواجدة على الأراضي السورية هدفاً لعمليات وهجمات متفرقة، لكن الفترة الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة في وتيرة هذه الهجمات، على هامش زيادة عمليات النظام وقصف المقاتلات الروسية لأهداف داخل مناطق السيطرة التركية في شمال سوريا، وهو أمر يُقرأ عادة كرسائل روسية ساخنة تجاه أنقرة. الأهم، أن استهداف القوات التركية أوقع مؤخراً قتلى في صفوفها بشكل متزايد، وقد حملت أنقرة وحدات الحماية أو قوات سوريا الديمقراطية مسؤولية هذه الهجمات متوعدة بالرد.
تمهيد أم تهديد؟
في الأيام الأخيرة، تواترت تصريحات تركية تشي بقرب تنفيذ أنقرة وعيدها بهذا الخصوص، في ظل تقارير رسمية تحدثت عن قيام ”المنظمة الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة بـ 122 اعتداءً“ على الجنود الأتراك والجيش الوطني السوري خلال الشهرين الفائتين. ففي الثالث عشر من الشهر الجاري قال الرئيس أردوغان إن “صبر بلاده قد نفد”، إثر هجمات لقسد سقط نتيجتها شرطيان تركيان في اعزاز.
نفس المعنى تقريباً كرره وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، الذي أخذ على كل من الولايات المتحدة وروسيا “عدم وفائهما بتعهداتهما” بعد عملية نبع السلام بخصوص إبعاد مسلحي قسد عن الحدود التركية، مشيراً إلى أنهما “يتحملان مسؤولية الاعتداءات” على القوات التركية، ومؤكداً على أن بلاده “ستقوم بكل ما يلزم” لوقفها.
لهذه التصريحات وغيرها ثلاثة احتمالات رئيسة. أولها أن تكون أنقرة قد اتخذت قرارها وباتت عملية عسكرية جديدة لها في الشمال السوري مسألة وقت، لا سيما وأن الاعتداءات والاستهدافات مستمرة بوتيرة متسارعة ومتزايدة، دون أن يكون هناك جهد حقيقي من موسكو أو واشنطن لمنعها، فضلاً عن الحرج الذي تسببه للحكومة التركية داخلياً، ومنعاً لمزيد من الخسائر مستقبلاً.
والثاني أن يكون المستهدف منها زيادة الضغط على كل من واشنطن وموسكو للالتزام بالتعهدات السابقة وإلجام مسلحي قسد وغيرهم، سعياً للحيلولة دون إطلاق تركيا لعمليتها. والثالث هو تحرك تركيا، رفعاً لسقف خطابها وتأكيداً لجهوزيتها الميدانية، بدافع التخوف من اتفاق ما بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية تقول بعض التقارير إنه بات وشيكاً وتخشى أنقرة من أن يكون شاملاً وعلى حسابها في بعض بنوده.
ولعل في لقاء وزير الدفاع خلوصي أكار في الـ 11 من الشهر الجاري عبر خدمة الفيديو كونفيرانس مع قائد أركان الجيش وقادة القوات البرية والبحرية والجوية رسالة واضحة في هذا الاتجاه، أي إرسال رسالة بالجاهزية للعملية، ما يمكن أن يدفع الأطراف الأخرى لإعادة حساباتها.
أما إذا ما اتجه قرار أنقرة لإطلاق عمليتها المتوعدة في سوريا، فإن المرجح أن تكون عملية محدودة السقف محددة الأهداف قصيرة المدة، ولعل المستهدف منها سيكون إلزام موسكو وواشنطن بالتفاهمات السابقة أو إبرام تفاهمات إضافية معهما بنفس الاتجاه. بينما لا تبدو فرص عملية واسعة ومتدحرجة على نسق درع الفرات وغصن الزيتون كبيرةً في الوقت الراهن ووفق معطياته.
ذلك أن المحاذير أمام عملية من هذا النوع كثيرة، في مقدمتها الخلاف مع كل من الولايات المتحدة وروسيا وصعوبة التوافق مع أي منهما في الوقت الحالي على عملية واسعة، والكلفة الكبيرة والتداعيات المتوقعة لأي عملية موسعة ومتدحرجة دون التنسيق معهما أو مع أحدهما، وكذلك افتقاد تركيا للغطاء الجوي فوق الأراضي السورية، والوضع الاقتصادي الداخلي، وحالة الاستقطاب المتزايدة مع المعارضة، وغير ذلك.
وعليه، فإن خيار أنقرة الأول هو محاولة الوصول للأهداف المرجوة دون الاضطرار لشن العملية بالضرورة، وهو أمر تكرر أكثر من مرة في الحالة السورية بشكل أو بآخر بهذه الدرجة أو تلك. فإن تمكنت من ذلك فبها ونعمت، وإلا فإن استمرار الاعتداءات وسقوط الضحايا سيزيد من حرج الحكومة التركية، ما سيضطرها على المدى البعيد لاتخاذ قرارات صعبة من قبيل إطلاق العملية أو الاتفاق مع موسكو و/أو واشنطن على مسارات ما أو تغيير بعض السياسات المتعلقة بالقضية السورية، وهي – كلها – خيارات مركّبة ولها استحقاقاتها وكذلك تبعاتها التي ينبغي حسابها بدقة.