هل اصطدمت درع الفرات بفيتو أمريكي – روسي؟
إضاءات
أعلنت تركيا في 24 من آب/أغسطس 2016 عن بدء عملية عسكرية في شمال سوريا أسمتها درع الفرات وقدمت لها أهدافاً رئيسة تمحور حول حماية الحدود التركية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومواجهة “كافة التنظيمات الإرهابية بما فيها داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي”.
المراحل
مرت العملية التي أدارتها القوات المسلحة التركية بالتعاون مع مجموعات من المعارضة السورية تحت اسم الجيش السوري الحر بمرحلتها الأولى سريعاً حيث سيطرت خلال ساعات معدودة على بلدة جرابلس الحدودية وأخرجت منها تنظيم الدولة. لاحقاً استمرت القوات التركية والسورية بالتقدم جنوباً وغرباً لتوسيع مناطق سيطرتها وتأمينها، فمرت عبر الراعي ودابق وصولاً للباب بعد تأمين الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا.
لم تكن معركة الباب بنفس سهولة ما سبقها وسرعته، بل تأخرت في الانطلاق والختام لأسباب عدة، أهمها بعدها الجغرافي عن الحدود التركية وعدد سكانها الكبير وتحصن التنظيم داخلها واستماتته في الدفاع عنها فضلاً عن المعيقات اللوجستية والميدانية التي واجهتها وفي مقدمتها ألغام داعش ومفاجآت النظام وروسيا، حيث تعرضت العملية للتوقف أكثر من مرة إما بسبب مضادات النظام أو القصف الجوي الروسي ولم تستأنف إلا بعد التوافق مع موسكو.
في 24 من شباط/فبراير المنصرم أعلنت تركيا عن نهاية معركة الباب بالسيطرة التامة عليها، وساد الخطابَ التركي إشاراتٌ إلى “المراحل المقبلة في عملية الفرات” وهي منبج والرقة، غير أن التطورات الميدانية ومواقف مختلف الأطراف أظهرت أن الأمر أعقد من ذلك، ولذا فما زالت القوات التركية والسورية في مكانها تقريباً منذ ذلك الوقت. فما الذي حصل؟
تحركات ميدانية
بدأت تركيا عملية درع الفرات بالتفاهم مع روسيا وبرضى أمريكي ولو على مضض، واستمرت بها مستثمرة الفترة الانتقالية الأمريكية وغياب التوافق بين موسكو وواشنطن حول سوريا. بيد أن كل ذلك تغير فجأة وبشكل متزامن لحظة الإعلان عن السيطرة على الباب والاستعداد للتوجه لمنبج و/أو الرقة.
فقد تحركت قوات النظام سريعاً لقطع الطريق على قوات درع الفرات نحو كل من الرقة ومنبج وهي إشارة روسية ذات دلالة، كما سلمت وحدات حماية الشعب (الكردية) بعض القرى في محيط المدينة لقوات النظام في إشارة أمريكية واضحة وإن أعلنت واشنطن أنها لم تكن تعلم بالاتفاق الذي أبرمته روسيا بين الوحدات والنظام. لم تحم وحدات الحماية نفسها من تركيا وحسب بهذه الخطوة، لكنها أيضاً عقدت الحسابات التركية. فأنقرة تدخلت في سوريا تحت لافتة محاربة “الإرهاب” وليس إسقاط النظام، وبالتالي فلا مشروعية لعمل عسكري منها ضده سيما في ظل الاتفاق على الحل السياسي، فضلاً عن أن خياراً مثل هذا سسيحيجها بالضرورة إلى ضوء أخضر روسي مستبعد أو سيضعها في مواجهة موسكو وهو ما لا تريده بطبيعة الحال.
الأهم من ذلك، والأخطر من وجهة النظر التركية، كان التأكيدات الأمريكية على محورية وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية (أغلب عناصرها من الوحدات) في معركة الرقة، وهو ما يعني الضرب بالشروط التركية للمشاركة فيها عرض الحائط. كما أعلنت واشنطن قبل أيام عن إرسال عدد من قواتها الخاصة إلى سوريا للمشاركة في المعركة. من جهتها أعلنت روسيا عن قناعتها بضرورة إشراك حزب الاتحاد الديمقراطي في مفاوضات أستانا وجنيف وهو تصريح يعاند الفيتو التركي بخصوص الحزب، إضافة لاستضافة موسكو لمؤتمر “كردي” ضم عدداً مهماً من التيارات الكردية وما تضمنته مسودة الدستور التي أعدتها وقدمتها للنظام والمعارضة من إشارات “الإدارة الذاتية الكردية” التي تعارضها أنقرة.
تضع هذه التفاصيل الكثيرة والمتواترة أنقرة أمام فرضية التوافق الأمريكي – الروسي على مسار ما في سوريا، الأمر الذي سيعني حكماً وضمناً تحديات مهمة لعمية درع الفرات والمصالح التركية فيها.
عقبات وتحديات
اليوم، تبدو أمام عملية درع الفرات وفق التصور التركي عدة عقبات وتحديات، أهمها:
أولاً، التحدي السياسي، إذ ما كانت درع الفرات ممكنة لولا الضوء الأخضر الروسي والسكوت الأمريكي، واليوم لا يبدو الطرفان – وفق المتغيرات الميدانية – متحمسين لاستمرار درع الفرات وفق التصور التركي وبدون تنسيق على الأقل.
ثانياً، التحدي الميداني، إذ أن طريق كل من منبج والرقة غير متاح أمامها إلا بتوافق مع النظام أو بمواجهة معه وكلاهما خيار لا تفضله تركيا حالياً.
ثالثاً، الغموض الأمريكي الذي يشمل الخط العام لسياسة واشنطن الخارجية سيما ما يتعلق بالمنطقة وسوريا ورؤية ترامب لمعركة الرقة تحديداً، إضافة إلى مكان تركيا ودورها المرغوب أمريكياً في الرقة ومنبج وسوريا بشكل عام. فما زالت التصريحات الأمريكية مصرة على ضرورة إشراك الفصائل الكردية المسلحة فيها (وأحياناً التأكيد على دور تركيا أيضاً) مع الإشارة إلى أن تصريحات ترامب حول المناطق الآمنة (مطلب تركيا منذ سنوات) لا تطمئن أنقرة لافتقادها حتى الآن لتصور واضح وتفاصيل محددة واحتمال أن تنفذ بالضد من المصالح التركية وليس بمراعاتها.
رابعاً، الغطاء الأمريكي للفصائل الكردية المسلحة، بما في ذلك الاعتماد عليها في معركة الرقة رغم الجهد التركي في تقديم الجيش السوري الحر كبديل وتقديم دعم تسليحي شمل مدرعات ومركبات مؤخراً ورفع العلم الأمريكي على مقارها في منبج وغيرها وانتشار القوات الأمريكية في محيطها “لمنع التوتر والاحتكاك” مع القوات التركية. ولعل القمة الثلاثية التي عقدت في أنطاليا التركية بين رؤساء أركان جيوش تركيا وروسيا والولايات المتحدة والتي انتهت دون الإعلان عن شيء ملموس سوى الحديث عن تجنب الصدامات غير المرغوب بها أكبر دليل على اختلاف التصورات والأولويات والخطط بينهم.
أكثر من ذلك، ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية متنكرة لوعودها التي سبق وأن قطعتها بعودة قوات سوريا الديمقراطية إلى شرق الفرات بعد إخراج تنظيم الدولة – داعش من منبج، ولم يصدر عنها أي تعقيب على إعلان الإدارة الذاتية فيها قبل أيام.
خامساً، عدم موثوقية الموقف الروسي الذي يلتقي مع أنقرة في تفاصيل ويختلف معها في أخرى، وتبدو أولويته وقف إطلاق النار وإعطاء زخم لحل سياسي يتوافق مع رؤيته، وربما يراهن على التوافق مع واشنطن في الفترة القادمة، سيما وأن قرائن عدم رضاه عن الرهان التركي على ترامب كانت أوضح من أن تخفى.
سادساً، اقتراب الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية في 16 من نيسان/أبريل المقبل، وهو ما يغذي الرغبة التركية بالتمهل وعدم التصعيد الميداني حتى لا تتأثر النتائج بأي أزمات أو خسائر بشرية و/أو عسكرية غير محسوبة.
سابعاً، الأزمة الحالية مع هولندا وبعض الدول الأوروبية الأمر الذي يلقي بظلاله على السياسة الخارجية التركية وقدرتها على التحرر من الضغوط والمناورة في الملف السوري.
آفاق المستقبل
في بدايات الأزمات الكبرى ومعاركها، تكون ثمة أرضية أوسع لتفاهمات واتفاقات وتوافقات بل ومحاور، بيد أن اقتراب الأزمات من الحل يزيد من وضوح الفوارق البسيطة بين المصالح والأهداف للأطراف المتوافقة على العناوين الكبيرة. هكذا، يمكن رؤية المشهد الحالي في سوريا كرقعة شطرنج يلاعب الجميع فيه الجميع ويحاول كل طرف التعامل مع باقي الأطراف لتعظيم مكاسبه وتقليل خسارته.
صحيح أن هناك توافقاً كبيراً على استحالة الحسم العسكري وضرورة الحل السياسي في سوريا، إلا أن تفاصيل هذا “الحل” تبقى مناط أخذ ورد وخلافات ونقاشات ومفاوضات بين الجميع من حلفاء وخصوم، والشيطان يكمن فعلاً وحقاً في التفاصيل. إضافة إلى أن حالة السيولة في سوريا والمنطقة تفرض تغيرات في المعادلات والمواقف والتحالفات بشكل متكرر، وتقلل من مساحات الثبات والوضوح.
وبالتالي، فلا يمكن الجزم بمسار الأمور ومآلاتها على سبيل القطع، بل إن الأسئلة التي يمكن طرحها في السياق أكثر بكثير من الإجابات المتاحة. يمكن القول إن هوامش المناورة التركية في سوريا (ميدانياً وعسكرياً) باتت أضيق بكثير من السابق للظروف السياسية والميدانية سالفة الذكر، وإن أي توافق أو اتفاق بين موسكو وواشنطن حول سوريا لن يصب في المصلحة التركية، وإن أولوية أنقرة في سوريا لم تتغير بعد ولا يتوقع لها أن تتغير قريباً وهي منع الدويلة الكردية من التشكل على حدودها الجنوبية، وإن سقفها بمواجهة “الإرهاب” يقيد يدها كثيراً ويضطرها إلى التنسيق مع التحالف الدولي وواشنطن وموسكو.
ويبدو أن التحركات الأمريكية وما هو معلن حتى الآن من تصريحات إدارة ترامب يحشر أنقرة بين خيارات صعبة إذ لا يمكنها الفوز بكل ما تريد وفق موازين القوى الحالية سيما وأنها لا تقف على أرضية مشتركة مع أي من القوى الكبيرة الفاعلة، لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا إيران ولا النظام. بهذا المعنى، قد تكون تركيا أمام ضرورة التنازل في معركة الرقة والمشاركة – بطريقة أو بأخرى – إلى جانب الفصائل الكردية وهذا مستبعد، او التنازل عن المشاركة في الرقة لصالح حسم منبج، بل ربما كانت الرغبة الأمريكية هي وضعها أمام هذا الخيار أو المقايضة.
وهذا الخيار يفتح الباب على سؤال ثان متعلق بمدى قدرة تركيا على إقناع واشنطن بسحب الغطاء عن وحدات الحماية في منبج، وإلا فإن قرار تركيا بإخراجها منها دون الرضى الأمريكي قد يعني مواجهة من نوع ما مع واشنطن. وهو يستتبع سؤالاً متلازماً عن مدى استعداد أنقرة للرضى بالأمر الواقع في منبج بعد إعلان الإدارة الذاتية لعدم التصادم مع الولايات المتحدة.
السؤال الثالث يتعلق بمسار الحل السياسي الذي استطاعت في إطاره أنقرة حتى الآن فرض رؤيتها باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) من طاولة التفاوض بالتفاهم مع الروس، ومدى قدرتها على الذهاب لنهاية الشوط في ظل الإصرار الأمريكي – الروسي على إشراكه أسوة بالفصائل المسلحة الأخرى سيما وأنها غير مقتنعة بالطلب التركي بإعلانه منظمة إرهابية.
والسؤال الرابع والأهم في هذا المضمار يشمل مصير درع الفرات على المدى البعيد في ظل اتفاق جميع الأطراف – علناً أو ضمناً – على الحل السياسي وبقاء النظام في الفترة الانتقالية وتوحيد الجهود لمكافحة “الإرهاب” بشكل شبه حصري. وبالتالي، فهل تصل أنقرة لمرحلة يُطلب منها مغادرة الأراضي السورية بعد تحرير الرقة من تنظيم الدولة و”انتفاء” مشروعية وجودها من وجهة نظر النظام؟ وهل تدعم كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا طلباً كهذا؟ وماذا سيكون موقف تركيا وقرارها حينها باعتبار أنه من المتعذر عليها العودة عن كل المراحل والخطوات السابقة في ظل استمرار خطر الدويلة الكردية في شمال سوريا.
أخيراً، في المحصلة، لم تفقد تركيا أوراق قوتها بعد، فما زالت الدولة الإقليمية القوية والحدودية النافذة التي تملك وجوداً عسكرياً على الأرض وإطلالة استخبارية عميقة وعلاقة مميزة مع طيف واسع من فصائل المعارضة السورية العسكرية والسياسية وطرفاً لا غنى عنه في المسار السياسي وفي مرحلة ما بعد نهاية الأزمة (الإعمار وإعادة اللاجئين). لكن التطورات الميدانية والانحيازات السياسية والأحداث المؤثرة في سياستها الداخلية والخارجية قد تضيّق عليها الخيارات وتصعّب عليها القرار، بعد أن كانت قد وسّعت الأولى وسهّلت الثاني في إعلان درع الفرات وما زامنه وصاحبه من تطورات.
ويبقى الثابت الأكيد في المشهد السوري أمران: أن الثورة السورية تحولت إلى أزمة دولية لا يقرر فيها السوريون بل يكتفون بدفع فواتيرها من دمائهم وبيوتهم ووطنهم ومستقبلهم، وأن السيولة تفرض نفسها منذ فترة طويلة وما زالت تجعل من شبه المستحيل القطع بسيناريوهات واضحة وأكيدة فيما يتعلق بسوريا ومستقبلها.