هرتسوغ في تركيا: الإدانة وما بعدها

هرتسوغ في تركيا: الإدانة وما بعدها

عربي 21

 

كما كان متوقعاً، أثارت زيارة رئيس دولة الاحتلال لتركيا جدلاً كبيراً في الأوساط العربية، ما بين من التزم موقفاً مبدئياً بالنسبة له برفض التطبيع مع الاحتلال بغض النظر عن الفاعل وبين من تفهم الزيارة ثقة بالقيادة التركية وإدراكاً لتاريخ العلاقات بين الجانبين.

ومردُّ هذا الجدل، الذي يغيب عادة في قضايا التطبيع المُجمع في الأغلب على رفضها، أن الأمر يتعلق هذه المرة بتركيا، لسببين. الأول تاريخية العلاقات بين الجانبين حيث كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة اعترافاً بالكيان الصهيوني في 1949 ولم يحصل أن قطعت العلاقات تماماً بين الجانبين بما يعني أن الزيارة الأخيرة ليست “تطبيعاً” بالتعريف الدقيق للمصطلح إذ أنه ليس هناك حالياً علاقة تؤسس من الصفر مع الاحتلال. والثاني أن تركيا وتحديداً الرئيس أردوغان محبوب بما قدمه من إنجازات لبلاده ولمواقفه من مختلف قضايا المنطقة والعالم وكذلك لمواقفه في القضية الفلسطينية.

ولا ينكر منصف مواقف تركيا بخصوص القضية الفلسطينية، وهنا لا أقصد الخطاب الرسمي ذا السقف المرتفع وإنما المنحى العام لسياساتها مقارنة بين العهد السابق وحكم العدالة والتنمية بل وبين بدايات حكمه والسنوات الأخيرة. فاليوم لا يعدُّ الجانبان حليفين استراتيجيين كما كان سائداً في تسعينات القرن الماضي، ولا هو عهد الزيارات المتبادلة على أعلى مستوى كما حصل في 2005 و2008.

ورغم ذلك فإن تاريخ العلاقات ليس مبرراً كافياً لتجنب نقد الزيارة. فكما أن هذا التاريخ لم يقف حائلاً أمام تراجع العلاقات للحد الأدنى في 2010 حين الاعتداء على سفينة مافي مرمرة وفي 2018 إثر المجزرة بحق متظاهري مسيرات العودة واستحقت الحكومة التركية حينها المديح والشكر، فإن هذا التاريخ ليس السبب الرئيس لعودة العلاقات في 2016 والآن وتستحق عليها الحكومة التركية اللوم والنقد. ففي جميع هذه الحالات كان القرار سياسياً ولاعتبارات سياسية، وصانع القرار فيها جميعاً هو رئيس الوزراء سابقاً والرئيس حالياً أردوغان.

وعليه، تنتفي فكرة “لا مسؤولية” أردوغان عن الزيارة الأخيرة لرئيس الكيان وبالتالي عدم استحقاق الأمر للنقد والرفض والإدانة، فالأمر لا علاقة له بالثقة والنوايا. إذ أن التعقيد في الأمر ظاهري فقط، بينما هو على الحقيقة في غاية البساطة إذ يمكن إدانة الفعل دون إلغاء الفاعل أو شطب تاريخه.

فإدانة استقبال أنقرة لهرتسوغ لا تعني التنكر لمواقف تركيا وما قدمته للقضية الفلسطينية. لا ينبغي لمن يدين تجاوز الموقف للتنكر، ولا ينبغي فهم الآخرين للإدانة من هذه الزاوية. لكن أيضاً، مواقف تركيا – واختلافها عن بعض الدول التي بدأت التطبيع من الصفر ووصلت لمراحل متقدمة من التعاون مع الاحتلال بل وتجريم الفلسطينيين – لا ينبغي أن تكون مانعاً من اتخاذ الموقف المبدئي الصحيح. وعلى عكس الشائع، فإن ذلك ليس انفعالاً ولا تسرعاً ولا عاطفة، وإنما هو موقف مبدئي منطقي وله حساباته السياسية والاستراتيجية المعروفة، بينما رفض النقد محبةً في دولة أو نظام أو رئيس هو عين العاطفة التي تغمي الأعين عن المواقف المطلوبة.

أما وقد قلنا ذلك وفصّلنا فيه، وبعيداً عن المخاطر التي قد تواجه تركيا من التقارب مع الاحتلال كما حصل مع دول أخرى أبرمت اتفاقات معها أو على أقل تقدير عدم حصولها على المصالح التي كانت تتوخاها من التقارب مع تل أبيب، إلا أن في الخطوة ما يقلق فعلاً.

ففي المقام الأول، تأتي زيارة هرتسوغ في إطار نشاط “إسرائيلي” واسع في المنطقة شمل لقاء وزير خارجية الاحتلال مع ملك الأردن، ورئيس أركان حربه مع رئيس الأركان البحريني وكذلك القطري (في خبر لم تؤكده أو تنفه الدوحة)، وحديث السفير الإماراتي لدى الاحتلال بأن الجانبين على وشك إبرام “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة” قبل نهاية الشهر الجاري.

وثانياً، تبدو تركيا أكثر حماسة ورغبة من الاحتلال في تطور العلاقات وهو ما يعده الأخيرُ فرصة للتريث وتوقع التنازلات منها وفق شروطه المرتبطة أساساً بالخطاب التركي الناقد لممارساته ضد الفلسطينيين وعلاقاتها مع بعض الأطراف الفلسطينية وخصوصاً حركة حماس.

وثالثاً، أن عدداً من التطورات التي حدثت مؤخراً تدفع الطرفين لمزيد من التواصل وتغري بمجالات من التعاون وفي مقدمتها الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث تسعى الولايات المتحدة في ظلها لتوحيد حلفائها معها وخلفها.

ورغم ذلك يمكن القول إن الزيارة لا تعني بالضرورة تطوراً ملحوظاً في علاقات الجانبين في المدى المنظور، فضلاً عن عودتها لحالة التحالف الاستراتيجي السابقة والتي لم تعد هدفاً لـ”إسرائيل” نفسها في ظل سياسات تركيا المعروفة والمعلنة. كما أن مسار التقارب سيعتمد على عدة عوامل وظروف غير مضمونة، وتقف في طريقه عقبات حقيقية منها تشكك الاحتلال في نوايا أردوغان ونظره للمسار الحالي على أنه مناورة منه لتمرير انتخابات 2023 في الظروف الأمثل بالنسبة له، وعدم حماسة المؤسسات العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” له، والجدوى غير المؤكدة لمشاريع الغاز التي تشكل الدافع التركي الرئيس للتقارب مع الاحتلال.

في الخلاصة، فإن إدانة الزيارة أو الاستقبال موقف مبدئي مفهوم ومطلوب وهو أقل الواجب، ولا تشكل الخلفية التاريخية للعلاقات بين الجانبين فارقاً في هذه الزاوية كما سلف تفصيله. كما أنه ليس من واجب أحد التبرير لقرارات سياسية يتخذها أي طرف وفقاً لسياقات ومصالح متوقعة أو متخيلة، فدولة مثل تركيا لديها مؤسسات سياسية وإعلامية قادرة على شرح منطلقاتها ومواقفها ولا تحتاج مساعدة من أفراد أو هيئات أخرى، فضلاً عن أنه ليس من واجب الأفراد تلمّس الدوافع السياسية والانتقال من الفهم للتفهم ومن التفسير للتبرير.

وأخيراً، فإن كان يصح لدى البعض “تفهّم” خصوصية تركيا أو اضطرارها لخطوة من هذا القبيل، فإن القضية الفلسطينية أكثر خصوصية ووضعها أكثر حساسية واضطراراً لا سيما في المرحلة الحالية. ما يدفع – وفق الظروف القائمة – لالتزام كلٍّ بمسؤولياته وثغره وواجبه الفردي، وعدم المساهمة في تمييع القضية وثوابتها وإخراج الموقف من التطبيع نحو مربع النسبية والمواقف الضبابية، فذلك ليس في مصلحة أحد. علماً أننا لا ننطلق في هذا الفهم والطرح من نسبة القضية للفلسطينيين على نطاق قُطري، وإنما من الفهم الحقيقي لها بعدِّها مواجهة لخطة استعمارية زرعت مشروعاً إحلالاً استيطانياً في المنطقة لإخضاع دولها وإضعافها وتقسيمها، بما في ذلك تركيا نفسها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

هرتسوغ في أنقرة: جدل التطبيع وآفاق المستقبل

المقالة التالية

كيف يمكن للوساطة التركية أن توقف الحرب على أوكرانيا؟

المنشورات ذات الصلة