عاشت تركيا في فترة ما قبل الانتخابات البلدية الفائتة في نهاية شهر آذار/مارس حالة استقطاب شديدة، أخرجت الحدث الانتخابي من بعده المحلي الخدماتي لأبعاد ودلالات أوسع من ذلك على المستوى السياسي التركي داخلياً وخارجياً. وكان هذه هو المعيار الذي تم بناء عليه تفسير نتائج تلك الجولة من الانتخابات في قراءتها الاولية، وفي نتائجها النهائية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات قبل أيام قليلة.
في ذلك الحين، ظهر وكأن تركيا تسير نحو الهاوية: اتهامات للحكومة بالفساد، وحرب مع “تنظيم مواز” يهدد مؤسات الدولة، وامتعاض شعبي وحراك من المعارضة، وانتقادات دولية حادة. لكن المراقب للأحداث عن كثب يدرك أن الانتخابات التركية عادة تحتمل وتحمل تلك السجالات والسخونة في الحملات الانتخابية، مع ملحوظة أن اتهامات الفساد التي واجهت الحكومة قد زادت من هذه الحدة، فما هو المشهد التركي اليوم بعد شهر ونصف من هذه الانتخابات الفارقة؟
هدوء السجال السياسي
بعد الأيام القليلة التي أعقبت الانتخابات، والتي امتازت بالتركيز على النتائج المتوقعة واحتمالات الفوز والخسارة والتجاوزات المدعات، عاد السكون إلى الحياة السياسية والحزبية التركية، وعادت حدة الخطاب الإعلامي للأحزاب المختلفة إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات البلدية. هذه الحالة المعتادة بعد كل انتخابات تركية ساهم فيها أيضاً انشغال الأحزاب المختلفة بالتحضير لانتخابات الرئاسة في آب/أغسطس المقبل، من اختيار المرشحين إلى التحالفات الانتخابية المختلفة، إضافة إلى ارتياح الأطراف كافة إلى عدم وجود تزوير متعمد أو كبير في الانتخابات، وإن كان هناك تجاوزات تمت، وطعون قدمت.
من ناحية أخرى، يبدو أن مقاربة الحكومة التي اعتمدت على نظرية المؤامرة واستهداف رموزها من وراء عمليات التنصت والتسريب قد اكتسبت مصداقية أكثر بعد الانتخابات، حيث اختفت تلك التسريبات شبه اليومية تماماً من الساحة رغم مضي أكثر من أربعين يوماً على المحطة الانتخابية.
تعافي الاقتصاد رغم استمرار الحرب
ورغم استمرار الحرب بين الحكومة وما أسمته “الكيان الموازي” داخل مؤسسات الدولة المختلفة، واستعار وتيرة الإقالات وتغيير أماكن العمل في كثير من هذه المؤسسات، خاصة الأمن والقضاء، إضافة لعدد من الوزارات، إلا أن الحالة الاقتصادية استمرت في التحسن شيئاً فشيئاً حتى بدا وكأنها تعافت تماماً من آثار التراجع السابقة.
ذلك أن ادعاءات الفساد التي لاحقت بعض الوزراء والمسؤولين في الحكومة، وأجواء الاستقطاب السياسي والمجتمعي، وترقب نتائج الانتخابات البلدية أدى إلى تضعضع الليرة التركية أمام الدولار وتدنيها إلى مستوى قياسي غير مسبوق، إضافة إلى توقف وترقب بعض الاستثمارات الخارجية ورؤوس الأموال للحالة السياسي. هذه الحالة من التراجع انقلبت إلى انفراج واضح بعد الانتخابات وفوز العدالة والتنمية وما حمله من إشارات تأكيد الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد، فتعافت البورصة وتحسن وضع الليرة أمام الدولار ليصل البارحة إلى أعلى مستوى له منذ بداية عام 2014.
الانتخابات الرئاسية
ويبدو أن العامل الأكبر في هذا الاستقرار وذلك التحسن هو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وما تحمله من انشغال الإعلام والرأي العام فضلاً عن الاحزاب السياسية بتحضيراتها وتحالفاتها وخططها، سيما أنها – هي الأخرى – تحمل أبعاداً أكبر وأهم من أي انتخابات رئاسية سابقة، باعتبار أنها أول المرة الأولى التي سينتخب فيها لرئيس من الشعب مباشرة وليس من البرلمان، وكذلك لإعلان رئيس الوزراء الحالي اردوغان نيته الترشح لها، بل واستعمال “كل صلاحيات” الرئيس حال فوزه.
ولئن كان قرار اردوغان النهائي مرتبط بقرار حزبه وتوافقه مع الرئيس الحالي عبدالله غول، فإن المعارضة التركية أيضاً، وخاصة حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية، تدرس إمكانيات التعاون والتمترس خلف مرشح واحد لمحاولة منافسة أو هزيمة مرشح العدالة والتنمية – أياً كان اسمه – في الانتخابات القادمة، مستعرضة كل الأسماء المحتملة والآليات الممكنة.
عاصفة فهدوء فعاصفة
ولكن يبدو أن الأحداث ستتسارع كثيراً خلال الأيام القليلة القادمة، حيث يبدأ اليوم “اجتماع الاستشارة والتقييم” لحزب العدالة والتنمية لمناقشة العديد من الملفات على رأسها مرشح الحزب للمعركة الرئاسية، وينتظر أن يخرج الاجتماع بعد يومين باتجاه واضح أو قرار مبدئي حول اسم مرشحه الذي سيقدمه سعياً نحو قصر تشانقايا، ثم سيكون بعد ذلك لقاء أخير بين قطبي الدولة التركية غول واردوغان للإعلان النهائي عن مرشح الحزب.
في تلك الأثناء سيكون على المعارضة التركية أيضاً أن تحدد موقفها من التعاون والتنسيق وتوحيد المرشح، لتبدأ في شهر حزيران/مايو القادم الحملات الانتخابية للمرشحين المتقديمين من مختلف الأطراف، في عملية انتخابية ستحمل مجدداً بذور التوتر السياسي والتراشق الإعلامي حتى يوم الانتخابات. هي فترة قصيرة من الزمن (ثلاثة أشهر) ستحفل بالكثير من الأحداث والقرارت الهامة التي ينتظر أن تؤثر في انتخابات الرئاسية التاريخية الوشيكة، ومستقبل تركيا على المدى القريب بأقل تقدير.