تعدّ الهجمة التي أدّت إلى مقتل 3 جنود أمريكيين في قاعدة داخل الأراضي الأردنية، التطور الأكبر المتعلق بالولايات المتحدة منذ بدء الحرب على غزة، وتنذر بالوصول إلى ذروة مخاطر توسُّع الحرب نحو أبعاد إقليمية أشمل.
احتواء الحرب
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كان الموقف الأمريكي واضحًا ومعلنًا بضرورة إبقاء الأمر محصورًا بالقطاع، وعدم توسيعه نحو أي جبهات أو مناطق أخرى، وتتمثل الأهداف والمصالح الأمريكية من ذلك في الرغبة في تجنُّب خسائر إسرائيلية أكبر، لا سيما مع الضربة التي وُجّهت إليها في عملية “طوفان الأقصى”.
كما الرغبة من ذلك أيضًا تجنُّب استدراج واشنطن نفسها إلى مواجهة متعددة الأطراف في المنطقة، في حين تريد التركيز أكثر على الحرب الروسية-الأوكرانية والمنافسة مع الصين، وقد ترسّخ موقف واشنطن أكثر مع تطاول أمد العدوان على غزة دون تحقيق أهداف الاحتلال منه من جهة، وارتداد ذلك سلبيًّا على شعبية الرئيس الأمريكي وبالتالي حظوظه في الانتخابات الرئاسية نهاية العام من جهة ثانية.
وقد عبّرت الولايات المتحدة عن هذا الموقف وعملت على تحقيقه بالتصريحات المتكررة من مختلف مسؤوليها، ونفي عِلم إيران ومسؤوليتها عن عملية “طوفان الأقصى”، وكذلك بإحضار حاملات طائراتها إلى المنطقة كعامل ردع لأي طرف قد يفكر في الانخراط العميق في الحرب، ورسائل التحذير التي أوصلتها إلى “حزب الله” بشكل مباشر عبر مبعوثها آموس هوكشتاين أو من خلال أطراف أخرى.
ومع دخول الحوثيين في اليمن على خط الحرب باستهداف السفن التجارية المتجهة إلى دولة الاحتلال، كانت الرغبة الأمريكية في تجنُّب التصعيد واضحة بتكرار التحذير والتهديد أولًا، ثم بإنشاء تحالف “حارس الأزهار” دون عملية، ثم بضربات فُهمت على أنها رسالة تحذيرية.
وفي العراق وسوريا، كانت الردود الأمريكية على استهداف قواعدها العسكرية محدودة ومنضبطة، باستثناء اغتيال أحد قيادات الحشد الشعبي، خصوصًا أن عشرات الهجمات التي رُصدت (تخطت 150 هجومًا) لم تؤدِّ إلى وقوع خسائر بين جنودها.
المعضلة الأمنية
النبوءة ذاتية التحقق (أو التوقع المحقق لذاته) هي حدوث تطور ما بعد حصول القناعة به رغم السعي لتجنُّبه، بل بسبب السعي لتجنُّبه في كثير من الأحيان، ولعلّ السعي الأمريكي لتجنُّب توسع الحرب في المنطقة مثال جيد على ذلك، حيث إن الخطوات التي أُريد منها ردع بعض الأطراف، لا سيما تلك المحسوبة على إيران وتدور في فلكها، أدّت إلى رفع هذه الأطراف منسوب انخراطها بشكل يتناسب مع التهديدات ويكون بمثابة الرد عليها.
“المعضلة الأمنية” ظاهرة في العلاقات الدولية تصف سلوك الدول أو الأطراف المتنافسة، بحيث يؤدي زيادة أي طرف لقدراته العسكرية (وبالتالي تحوله إلى مهدد أمني أكبر) إلى زيادة الطرف الخصم أو المنافس لقدراته الذاتية ليوازن ذلك التهديد المستجدّ، ما يدفع الطرف الأول إلى زيادة قدراته مجددًا، وهكذا دواليك في متوالية لا متناهية.
شيء شبيه هو ما حصل في المنطقة بعد الخطوات التي أرادت منها واشنطن ردع “حزب الله” والحوثيين والميليشيات في سوريا والعراق (ومن خلفهم جميعًا إيران)، حيث صعّدت تلك الأخيرة من هجماتها وتصريحاتها لتقول إنها لم ترتدع، وكذلك لتتجنّب تصعيدًا إسرائيليًّا وأمريكيًّا أكبر ضدها، وهو ما أدّى بدوره إلى زيادة منسوب الضغط عليها.
فقد أدّى القصف الإسرائيلي المستمر لجنوب لبنان، واستهداف قيادات ميدانية من “حزب الله”، والتهديد بحرب موسّعة في العمق اللبناني، إلى عمليات نوعية للأخير اُستخدمت فيها أسلحة جديدة وأكثر فاعلية.
وأدّى قصف الحوثيين إلى رفع مستوى عملياتهم في البحر، كما حصل في استهداف سفينة نفط بريطانية بصواريخ باليستية في خليج عدن أدّت إلى احتراقها، ثم استهداف سفينة عسكرية أمريكية.
كما أدّت عمليات الاغتيال المتتالية لشخصيات عسكرية إيرانية إلى استهداف ما قالت إنه مقرّ للموساد في كردستان العراق، بينما أدّت العمليات الأمريكية في كل من العراق وسوريا -إضافة إلى كل ما سبق- إلى العملية الأخيرة التي أوقعت قتلى في صفوف الجنود الأمريكيين.
التوسُّع
أعلن البنتاغون يوم الأحد عن مقتل 3 جنود أمريكيين وجرح العشرات، جرّاء هجوم بمسيّرة كبيرة على قاعدة أمريكية داخل الأراضي الأردنية وعلى مقربة من الحدود السورية، وهو الهجوم الأول الذي يوقع قتلى في الجيش الأمريكي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
وفي حين أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق عن مسؤوليتها عن الهجوم، وهددت بتصعيد أكبر في حال استمر الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، كما توعّد الرئيس الأمريكي بـ”محاسبة كل المسؤولين عن الهجوم”، وطالب بعض أعضاء الكونغرس بضرب أهداف داخل إيران وفي المنطقة ردًّا على الهجوم.
يمثل الهجوم المذكور خروجًا واضحًا عن قواعد الاشتباك المتّبعة حتى اللحظة، والتي تجنّبت بشكل ملحوظ قتل جنود أمريكيين، وهو ما يخدم فكرة عدم توسيع نطاق الحرب ونقلها إلى مرحلة المواجهة الشاملة في المنطقة، وليس واضحًا حتى اللحظة ما إذا كان مخططو الهجوم قد تقصّدوا فعلًا إيقاع قتلى في الجيش الأمريكي، كرسالة ردع عالية السقف وتحذير من مخططات التصعيد في المنطقة، أو ما إذا كان ذلك خطأ غير مقصود في التخطيط و/ أو التنفيذ.
لكن، وبالنظر إلى كل ما سبق وردّات الفعل داخل الولايات المتحدة ودخول الأخيرة في أجواء الانتخابات الرئاسية، فإن ردَّ واشنطن يبدو خيارًا لا مفرّ منه، ولتحمل لنا حينها تفاصيلُ الرد الأمريكي (توقيته ومكانه وأداته والمستهدف منه وحصيلته) مؤشرات حول السيناريوهات المستقبلية المحتملة.
ينبغي هنا التذكير بأن نشوب حرب ما أو توسعها لا يُبنى دائمًا وبالضرورة على إرادة سياسية واضحة من أحد طرفَي الحرب أو كليهما، إنما يحصل ذلك كثيرًا بسبب تدحرج الأحداث و/ أو أخطاء غير مقصودة في التقدير والتنفيذ، و/ أو كسر قواعد الاشتباك القائمة بشكل لا يمكن لها الرجوع من بعده.
وبالتالي، وبغضّ النظر عن الكثير من التفاصيل الغائبة عن الهجوم الأخير حتى اللحظة، إلا أنه في كل الأحوال تصعيد كبير لا يترك لواشنطن خيارًا سوى الرد، والأخير بدوره سيحدد -مع عوامل أخرى- ما إذا كان سيكون ثمة رد من الطرف الآخر وحدوده وحصيلته وتبعاته، وهكذا قد نكون أمام متتالية من الردود الأعلى سقفًا من السابق.
يجعل ذلك احتمالات انتقال الحرب إلى مرحلة جديدة وتوسعها بشكل يحاكي مواجهة إقليمية شاملة أكبر من أي وقت مضى، وهنا تكون المنطقة أمام أحد سيناريوهَين رئيسيَّين؛ إما التوسع وانفلات الأمور نحو مواجهة كبيرة وواسعة، وإما التوافق على إنهاء الصدام تخوفًا من حدوث السيناريو الأول الذي لا يريده أي من الأطراف الرئيسية، من باب أنه لا يخدم مصالح أي منها في القراءة الآنية ووفق المعلن.
ما على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدركه اليوم هو أن تصريحاتها وحشدها في المنطقة لم يؤديا إلى الردع الذي تنشده، وأن الخطوات التي أرادت من ورائها إخافة الأطراف المختلفة ومنعها من الانخراط في الحرب أدّت إلى العكس تمامًا، وأن تصعيدها الأخير والتهديد بتوسيع نطاق الحرب أدّى إلى ذلك وليس إلى شيء آخر.
المعنى الأوضح من كل ما سبق، وخصوصًا دلالات الهجوم الأخير، أن تسخين مختلف الجبهات أتى بسبب العدوان على قطاع غزة والدعم الأمريكي اللامحدود للاحتلال، وبالتالي إن ما يمكن وينبغي أن يوقف كل ما سبق هو وقف العدوان والدعم الممنوح للاحتلال بخصوصه، وليس الخطوات التصعيدية التي لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من التصعيد والاستهداف.
إن المنطقة تسير مؤخرًا نحو الحرب الشاملة بأقدام مسموعة الخطى وفق منطق “النبوءة ذاتية التحقق”، إلا إذا حصل ما يوقف سلسلة الأحداث عند نقطة ما تعالج الأسباب المذكورة لا الظواهر فضلًا عن النتائج.