بعد أشهر من الانقطاع، عاد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للقاءاته الدورية مع “المخاتير” من مختلف المحافظات التركية، وهي عودة تحمل رسائل إيجابية في ظني باعتبار أنها تشير إلى استقرار الأوضاع النسبي في البلاد بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة وعودة الرجل لنشاطه الاعتيادي ما قبلها.
بيد أن تصريحات اردوغان في لقائه السابع والعشرين مع المخاتير أدت إلى جدل سياسي وإعلامي كبير حين وجه انتقاداً لاذعاً لاتفاقية لوزان قائلاً “لقد أرَونا معاهدة سيفر في 1920 ليجعلونا نقبل معاهدة لوزان عام 1923” في تناص واضح مع المثل التركي الشائع “أراه الموت ليجعله يقبل بالملاريا” وهو مثل يشير إلى قبول السيء للنجاة من الأسوأ.
لم يكتف الرئيس التركي بهذه الإشارة الضمنية للغمز من قناة الاتفاقية، بل أضاف “البعض يريد أن يقنعنا بأن معاهدة لوزان انتصار. أين الانتصار فيها؟ لقد خسرنا بعض جزراً في بحر إيجه على بعد صرخة (كناية عن القرب) لمصلحة اليونان. من جلسوا إلى الطاولة في لوزان لم يكونوا على مستواها”.
يشير اردوغان هنا إلى معاهدة سيفر التي وقعتها الدولة العثمانية في 10 آب/أغسطس 1920 مع الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتضمنت شروطاً مجحفة بحقها، مثل تخليها عن جميع الأراضي التي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، واستيلاء الحلفاء على بعض أراضيها، وتقسيم بلدان شرق المتوسط وفرض الانتداب عليها، وهي الاتفاقية التي كانت المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية.
رفض البرلمان التركي بقيادة مصطفى كمال شروط سيفر وخاض الأتراك “حرب الاستقلال” التي حرروا خلالها الأناضول من الاحتلال الأجنبي، ووقعوا بعدها أي في 24 تموز/يوليو 1923 معاهدة لوزان (وتسمى معاهدة لوزان الثانية لتفريقها عن اتفاقية لوزان الأولى أو معاهدة أوشي التي وقعتها الدولة العثمانية مع إيطاليا عام 1912)، وهي الاتفاقية التي أبطلت معاهدة سيفر وثبتت الاعتراف الدولي بالجمهورية التركية وريثة الامبراطورية العثمانية وصاغت حدودها مع مختلف الدول فأكسبتها مناطق جديدة في الجنوب (سوريا) وودأت فكرة الدولة الكردية.
الجدل الذي دار في تركيا بعد هذه التصريحات تركز على البعد الداخلي المتعلق بتقييم الرئيس التركي لاتفاقية لوزان ونتائجها ومن وقعوها، إذ تعتبر الأخيرة من ضمن الوثائق المؤسسة للجمهورية التركية وفي مقدمة إرث مصطفى كمال وعصمت إينونو مؤسس الجمهورية والرئيس الثاني لها على التوالي، سيما وأن اردوغان كان قد اعتبر الاتفاقية “وثيقة مؤسِّسة” للدولة التركية وبمثابة ورق “الطابو” لها مترحماً على “مصطفى كمال وبناة هذه الاتفاقية من باقي رجال الدولة” قبل حوالي شهرين فقط في ذكرى توقيعها.
هذه الرسالة الموجهة للداخل التركي يمكن فهمها في سياق “صراع الهوية” الدائر حول مرجعية الجمهورية التركية والقيم المؤسسة لها والوصائية التي يمارسها الخط الكمالي العلماني في تركيا على البلاد وشعبها، وهو ما يفسر ردة الفعل الشديدة التي صدرت عن حزب الشعب الجمهوري والنخب العلمانية في البلاد ضد تصريح اردوغان. هذه الخلفية تعطي أبعاداً أعمق أيضاً على مصطلح “حرب الاستقلال الثانية” التي استعملها اردوغان وحزب العدالة والتنمية على مدى السنوات القليلة الماضية ليصفوا بها ما اعتبروه مواجهة تركيا مع خصومها وأعدائها في الداخل والخارج (فكرة الاستهداف) لكنها باتت اليوم لصيقة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة وما تلاها، ولذلك لم يكن اعتباطاً تسمية هذه الذكرى “عيد الديمقراطية” وإعلانها عيداً وطنياً وإجازة رسمية ضمن الأيام والأعياد الوطنية الأخرى المحتفى بها في تركيا والتي تعود لفترة تأسيس الجمهورية على يد أتاتورك.
بيد أن الرسالة الداخلية لم تكن الوحيدة المستقاة من تصريحات الرئيس التركي، بل كان لها بعد خارجي واضح، باعتبارها تزامنت مع حدثين:
الأول، تمديد البرلمان التركي لمذكرة تفويض الجيش للقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود (سوريا والعراق) لسنة إضافية (حتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2017) كأول عمل تصدى له البرلمان في يوم افتتاح السنة التسريعية الجديدة في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الجاري بحضور الرئيس التركي ورئيس أركان الجيش، وبموافقة 298 نائباً واعتراض 98، بعد أن أعلن حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية تأييدهما لتمديد المذكرة، رغم تحفظات الأول واعتراضاته (واضح أن بعض نوابه قد صوتوا بالرفض).
الثاني، الحديث المتواتر والمتسارع حول معركة الموصل التي يخطط لها التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة – داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الحديث الذي لاقى صدى وتجاوباً من أنقرة مؤخراً، خصوصاً تصريحات اردوغان عن “خطأ تركيا” بعدم المشاركة عام 2003 في حرب العراق وأهمية تواجدها “على الطاولة” بحيث لا تصاغ خرائط المنطقة المستقبلية في غيابها.
هذا التحول التركي – السريع نسبياً – من الحديث عن معركة الباب و/أو منبج إلى معركة الرقة ثم الآن إلى معركة الموصل له دلالته المتعلقة برغبة تركيا في التحرك تحت غطاء التحالف الدولي ومن خلاله، أولاً لإضفاء المشروعية (أو إدامتها) على تدخلها العسكري في البلدين وخصوصاً سوريا، وثانياً حتى لا تتحمل وحدها وزر التدخل ونتائجه السلبية، وثالثاً حتى تكون جزءاً من المعادلة التي ستصوغ الخرائط الجغرافية والسياسية في جارَيْها.
صحيح أن العراق أو معركة الموصل ليست أولوية تركيا باعتبار أن التطورات على الساحة السورية أكثر حساسية وأولوية بالنسبة لها، سيما ما يتعلق بالميليشيات الكردية وتنظيم الدولة ومعركة حلب وكافة التفاصيل، بيد أن توجه التحالف الدولي نحو الموصل – فيما يبدو – قد أبطأ عجلات “درع الفرات” وأعاد ضبط إعداداتها، وإن لم يوقفها أو يغير خططها تماماً.
وكما أن من أهم منطلقات تركيا ومسوغات تدخلها في سوريا “ملء فراغ ما بعد داعش” والحيلولة دون سيطرة الميليشيات الكردية على المناطق التي ينسحب منها التنظيم (إضافة لأهداف أخرى سبق وأن سردتها في مقالات سابقة لا مجال لها هنا)، فإن في مقدمة أهداف تركيا من المشاركة في معركة الموصل – إضافة لما سبق آنفاً – هدفان:
الأول، المساهمة في صياغة مستقبل العراق وملء الفراغ الذي سيخلفه تنظيم الدولة – داعش، بحيث تكون المعادلة السياسية في البلاد أكثر توازناً واستقراراً، وبحيث لا تحل أطراف مناوئة لأنقرة مكان التنظيم.
الثاني، قطع الطريق على مشاركة حزب العمال الكردتاسني في المعركة في إطار سعيه لكسب مشروعية دولية كتلك التي حازها نظيره السوري حزب الاتحاد الديمقراطي تحت عنوان مكافحة داعش، لما لذلك من انعكاسات سلبية على ملف مواجهته داخل تركيا وفي معسكرات جبال قنديل شمال العراق.
إذن، يبدو أن الرئيس التركي قد أحال في تصريحه حول نقد اتفاقية لوزان إلى سياق تاريخي ذي قيمة معنوية فيما يتعلق بالملف الداخلي، وإلى سياق مستقبلي محوري في الإقليم سيما ما يتعلق بمعركة الموصل التي تبدو اليوم أقرب من أي يوم مضى. صحيح أن تركيا تاريخياً لم تخسر الموصل بفعل اتفاقية لوزان بل باتفاقية أخرى مع بريطانيا (اتفاقية أنقيرة – 1925)، لكن التصريح أتى في سياق المناطق التي خسرتها تركيا سابقاً وما زالت تعاني اليوم من آثارها، وهو ما يعيدنا مرة أخرى لمصطلح “حلب – الموصل: خط الدفاع الأول عن تركيا” وإسقاطاته وانعكاساته في ظل التطورات المتسارعة والحاسمة في كل من سوريا والعراق.