رغم اقتراب الانتخابات البرلمانية في تركيا، وانشغال معظم الدوائر السياسية والإعلامية بالاستعداد لها، من حيث البرامج والمرشحين واستطلاعات الرأي وفرص الفوز وتوقعات ما بعد إعلان النتائج، إلا أن المعركة الدائرة منذ أكثر من سنة بين الحكومة التركية وجماعة كولن، أو ما اصطلح عليها باسم “الكيان الموازي” في الدولة تشهد تسارعاً وأحداثاً متلاحقة.
لقد تلقت الحكومة التركية ومن خلفها العدالة والتنمية ضربة قوية كادت تطيح بها في السابع عشر من كانون أول/ديسمبر 2013، حين اعتقل عدد من أبناء الوزراء ورجال الأعمال والموظفين الكبار في بعض الوزارات على ذمة قضايا رشاوى أو ادعاءات بالفساد المالي، بعد 11 عاماً من السمعة النظيفة بشكل عام لحكومات الحزب الحاكم المتلاحقة. اعتبرت الحكومة ما حصل انقلاباً عليها بدعوى مكافحة الفساد، ومحاولة لإسقاطها عبر السلطة القضائية التي تسيطر عليها جماعة كولن – حليفها السابق – مستدلة بعدد من الشواهد والقرائن والسياقات، كنا قد أشرنا لها في أكثر من مقال سابق.
لكن الحكومة التركية سرعان ما أخذت زمام المبادرة لاحقاً، فشنت على “الكيان الموازي” هجوماً مركزاً ضمن خطة استراتيجية، بدأت بإرباك تنظيمه وخططه داخل مؤسسات الدولة (من خلال عمليات النقل والإعفاء من العمل)، مروراً بإجباره على الانتقال من الهجوم إلى الدفاع (عبر عدد من القوانين والتعميمات في الوزارات المختلفة)، وصولاً إلى إحكام الخناق عليه (وضع اليد على بنك آسيا، وملاحقة مدارسه خارج تركيا وتقليم أظافر مؤسساته الإعلامية).
لكن التنظيم الموازي – الاسم المستعمل للتدليل على القيادة المتنفذة في الجماعة – استطاع الصمود فترة طويلة بفضل ما امتلكه من نفوذ في السلك القضائي، فتوالى إخلاء سبيل الكثير من المسؤولين ورجال الأمن والشرطة المتحفظ عليهم على ذمة قضايا التنصت على قيادات الدولة، او الذين رتبوا لقضايا وهمية من خلال فبركة الأدلة. لكن الانتخابات الأخيرة للهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين حملت متغيراً مهماً على هذا الصعيد، حيث تقدمت فيها القائمة المحسوبة على الحكومة على القائمة المحسوبة على الجماعة، الأمر الذي خفف كثيراً من سيطرة الأخيرة على القرارات القضائية الإجرائية.
مؤخراً، وخلال الأيام القليلة الماضية، شهدت الحملة على التنظيم الموازي عدة تطورات بارزة توضح المدى الذي وصلت إليه محاولات تقويضه، أهمها:
أولاً، تسلم تركيا لرجليْ أمن كان قد قبض عليهما في رومانيا، بعد هربهما من تركيا إثر اتهامهما بوضع أجهزة تنصت في مكتب اردوغان خلال رئاسته للحكومة.
ثانياً، استمرار حملات التحفظ على عدد كبير من رجال الشرطة والأمن المتهمين بتلفيق القضايا والتنصت غير المشروع والاعتقالات غير القانونية للتحقيق معهم في هذه القضايا.
ثالثاً، القبض على نائب رئيس المؤسسة التركية للبحوث العلمية والتقنية (توبيتاك) للتحقيق معه في قضايا التنصت والتجسس وتسريب معلومات الدولة الحساسة، حيث كانت هذه المؤسسة مسؤولية عن الهواتف “المشفرة” الخاصة بكبار رجال الدولة، الذين تبين لاحقاً أن تعرضوا للتنصت والتسجيل ونشرت لهم عدة تسجيلات على الشبكة العنكبوتية.
رابعاً، اعتقال عدد من رجال الأمن والشرطة على ذمة التحقيق في قضية “الغرفة السرية”، وهي غرفة شديدة الأهمية في مركز قيادة القوات المسلحة التركية تحوي أرشيف المعلومات والوثائق السرية للدولة، كانت قد تم الدخول لها وسرقة عدد كبير من ملفاتها من خلال ادعاء وجود محاولة اغتيال لنائب رئيس الحكومة بولند أرينتش.
خامساً، استصدار قرار ثالث بضبط وإحضار زعيم الجماعة المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن، على ذمة قضية امتحان اختيار الموظفين الحكوميين (KPSS) عام 2010، والذي تبين أن أسئلته قد سُرِّبت وحصل تلاعب كبير في نتائجه، وتتهم الجماعة بأنها من سرب الأسئلة لأنصارها لإدخالهم في المؤسسات الحكومية والوزارات.
وتفيد المصادر الحكومية بأن هذا القرار سيُضم إلى قراري الاعتقال السابقين (الأول في قضية “التحشية” والثاني في قضية “السلام والتوحيد” اللتين سبق لي الحديث عنهما في مقالات سابقة) في مذكرة اعتقال واحدة، أو ما يسمى “النشرة الحمراء”، للتقدم إلى الولايات المتحدة الأمريكية بطلب رسمي لتسليمه للسلطات التركية بهدف التحقيق معه.
سادساً، حملة تشويه إعلامية لكولن نفسه، من خلال نشر صحيفة “يني شفق” ما قالت إنها وثائق تثبت انتماءه للماسونية العالمية منذ عشرات السنين. ولئن كانت الطريقة غير مقنعة ولا تحظى بمصداقية كبيرة إذا ما نظر لها من زوايا التوقيت والسياق والمصدر، إلا أن هدفها واضح في سياق الحرب الدائرة بين الجماعة والحكومة، خاصة في فترة ما قبل الانتخابات.
وبكل الأحوال، تظهر كل هذه التطورات أن الحكومة ما زالت تكسب النقاط المتواصلة في محاولتها لتحجيم نفوذ الجماعة وزيادة قدراتها على مواجهتها، باعتبار أن الصراع لا يمكن أن يحسم بالضربة القاضية.
لكن الجماعة أيضاً ما زالت تملك الكثير من أوراق القوة، منها كوادرها المنتشرة في كل المؤسسات والوزارات – الذين لا يمكن حصرهم وتحديدهم فضلاً عن إقصائهم – ومنها علاقاتها الخارجية القوية خاصة مع الولايات المتحدة حيث يقيم زعيمها مما قد يصعب موضوع تسليمه لها، ومنها عشرات النواب المحسوبين عليها أو المقربين منها والذين لا يزالون في صفوف العدالة والتنمية ولا يعرف بالضبط ما هي خطتهم قبيل أو خلال أو بعد الانتخابات المقبلة.
وهو أمر حاضر بالتأكيد في ذهن صانع القرار في الحزب، حيث تؤكد قياداته أن أحد أهم معايير تحديد اختيار مرشحيه هو عدم انتمائهم للكيان الموازي أو دورانهم في فلك الجماعة. وبذلك تكون الانتخابات المقبلة حاسمة وحساسة جداً، ليس فقط للإجابة عن سؤال الحكومة والخطط المستقبلية، ولكن أيضاً عن سؤال مآلات الصراع بين الحكومة والجماعة الذي يؤثر وسيؤثر بالتأكيد في مسيرة تركيا ومستقبلها على المديين القريب والمتوسط.