بعد سنوات من التلميحات والتمهيد وأشهر طويلة من التوقعات والاستشرافات والحديث الهامس، فرضت نقاشات النظام الرئاسي العلنية في تركيا نفسها على الأجندة السياسية والإعلامية، وطغت على كل النقاشات الأخرى رغم أهميتها وحساسيتها، بما فيها مكافحة الكيان الموازي والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية والأزمة السورية وتقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الخاص بتركيا.
ما يلفت النظر أن هذه النقاشات تجاوزت سريعاً سؤال “هل” لتناقش سؤال “كيف”. فلا المعارضة ما زالت مستمرة في اتهاماتها للحزب الحاكم بذلك ولا الأخير ينفي نيته أو يدعي تأجيل هذا الاستحقاق، بل انشغلت الأوساط الإعلامية والسياسية خلال الأيام الماضية بنقاش وموازنة فوائد ومضار هذا النظام حال تطبيقه في تركيا، وتراوحت التعليقات بين تساؤلات المراقبين ومخاوف المعارضين وتطمينات الحكومة.
لا شك أن رغبة أي حزب حاكم في تغيير النظام السياسي في بلاده ستثير بداهة مخاوف المعارضة السياسية في تلك البلد وتذكي اعتراضاتها، ومن باب أولى أن تزداد هذه المخاوف حين يكون الحزب الحاكم هو العدالة والتنمية والرئيس اردوغان. فحكم 12 عاماً في تركيا مع كل ما تحقق من إنجازات وفي ظل رئيس قوي وطموح كاردوغان يعطي بعض الوجاهة بالتأكيد لقلق المعارضة السياسية في البلاد من احتمالات السيطرة على المشهد السياسي والتحول شيئاً فشيئاً نحو حكم فردي شديد التحكم بمقاليد الأمور.
من ناحيته، يحاول العدالة والتنمية أن يقدم ما أمكنه من تطمينات للجمهور التركي وأحزابه السياسية المختلفة، وأن يجيب على علامات الاستفهام المرفوعة في وجهه فيما يتعلق بالنظام الرئاسي ومخاطره على تركيا. في هذا الإطار، يقدم الحزب مقاربة تنفي التوجه للسيطرة على الحياة السياسية والحزبية في البلاد أو تعديل النظام السياسي ليناسب حزباً معيناً أو شخصاً محدداً (المقصود بذلك اردوغان)، وهو ما عبر عنه نائب رئيس الحزب ونائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش حين قال “نحن لا نهدف لتغيير الأشخاص، بل العقلية وأخطاء النظام القائم”.
الرئيس التركي أيضاً دخل بقوة هذه المرة على مساحات الحوار الدائرة من خلال عدد من التصريحات إضافة إلى لقاء تلفزيوني مطول شارحاً رؤيته للنظام الرئاسي وما اعتبرها أسباباً وجيهة للحاجة إليه. فقد أشار إلى البيروقراطية الشديدة في النظام الحالي حيث تمر آلية القرار عبر 3 مراحل وهو ما يؤدي إلى عرقلة الأعمال والقرارات الضرورية، منتقداً تدخل القضاء تحديداً في قرارات إدارية بحتة (مثل قرار تعيين مدير عام لشبكة الراديو والتلفزيون مثلاً)، الأمر الذي يرى فيه تغولاً واضحاً من السلطة القضائية على التنفيذية. بهذا المعنى ينتقد اردوغان النظام البرلماني الحالي الذي يشرعن تعدد الأقطاب وتداخل السلطات، وهو ما اعتبره النقص الأكبر في النظام البرلماني الحالي أو “الأغلال التي تقيد أرجلنا خلال المسير”.
لكن الرئيس التركي لا يفوت الفرصة لتهدئة هواجس التسلط والتفرد، فيؤكد أن انتقاد تداخل السلطات وتدخل القضاء لا يعني أن مقام الرئاسة في النظام القادم سيكون محصناً ضد المتابعة والرقابة، بل على العكس سيكون في الإمكان محاسبة أو محاكمة الرئيس على قراراته وسياساته – كما يحاسب النواب والوزراء – في حين أن الدستور الحالي يتيح محاكمته بتهمة الخيانة العظمى حصراً.
من ناحية أخرى فقد أظهرت التطورات خلال الأسبوع الفائت أن الأمر تعدى “النقاش” حول النظام الرئاسي نحو “إجراءات تمهيدية” له، يأتي في مقدمتها تصريح النائب عن العدالة والتنمية برهان كوزو أن “النظام الرئاسي” سيكون شعار الحزب الرسمي في حملته الانتخابية، إضافة إلى تعيين ناطق باسم الرئاسة وعقده لمؤتمر صحافي هو الأول من نوعه في تركيا، في محاكاة واضحة للبيت الأبيض. وهو ما كان فرصة لاردوغان للتذكير بأن عشراً من دول مجموعة العشرين يسري فيها النظام الرئاسي بدون مخاوف التفرد والسيطرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك والبرازيل.
ومما يشجع على المضي في مشروع النظام الرئاسي هو التفاهم الملحوظ بين منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، لانتساب الطرفين إلى نفس الحزب والتوجهات والتناغم التام بين الرجلين الأهم في التجربة التركية الحالية، اردوغان وداود أوغلو. كما أظهر استطلاع رأي أجرته شركة (ORC) أن نسبة %56 من الشعب التركي يؤيدون التحول نحو النظام الرئاسي، وهي بالمناسبة نسبة توحي باتخاذ القرار بناءً على الانتماء الحزبي أو الثقة بالرئيس الحالي أكثر منها قناعة بصوابية النظام وفوائده.
لكن كل ما سبق لا يعني أن النظام الرئاسي قادم لا محالة لتركيا، إذ أن دونه عوائق وعقبات كؤودة. فتغيير النظام السياسي في البلاد يحتاج لتعديل الدستور أو صياغة دستور جديد وهو ما يتطلب نسبة الثلثين في البرلمان التركي القادم. وهو أمر لا يملكه العدالة والتنمية حالياً ولن يكون من السهل الوصول له في الانتخابات القادمة، بما يفتح الباب واسعاً على أسئلة البدائل المتاحة والتكتيكات الانتخابية والتحالفات السياسية، خاصة مع حزب الشعوب الديمقراطي، وهو ما سنتناوله في مقالات قادمة إن شاء الله.