يعتبر مصلح “نظرية المؤامرة” من أكثر المصلحات المتداولة في مجالات النقاش السياسي والمجتمعي، وأكثرها إثارة للجدل بين مؤيديه ومعارضيه. فالمصطلح الذي استعمل لأول مرة عام 1909 في مقالة لألين جونسون في مجلة (The American History) ودخل قاموس أكسفورد للغة الانكليزية عام 1997 يعني – بتبسيط شديد – تفسير الحوادث والتطورات بعيداً عن أسبابها الظاهرة المعلنة وإرجاعها إلى أسباب وقوى خفية – كالدول أو أجهزة المخابرات – تستخدمها لأغراضها الخاصة.
ومن الواضح أن طبيعة السياسة التي لا تعرف إلا المصالح وتاريخ الدول والمنظمات وأجهزة المخابرات قد أضفت على نظرية المؤامرة مصداقية بل وسحراً خاصاً جعلها المنهجية الوحيدة لدى الكثيرين في تفسير مختلف الظواهر عبر التاريخ القديم والحديث. فأحداث مثل اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي وتفجير برجي التجارة في 11/9 وغيرها أرجِعت من قبل الكثيرين إلى قوى خفية ومؤثرة تعمل من خلف الكواليس.
في حين رأى فيها منقتدوها استغراقاً في السذاجة وبعداً عن فهم الأسباب الحقيقية وتعلقاً بالوهم، وبالتالي ابتعاداً عن الفهم الصحيح وعن إمكانية التعامل الموضوعي مع الأحداث والاستفادة من تطوراتها، فضلاً عن معالجة الأخطاء والقصور الذاتي.
وفي حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية يوم 24/11 كان ثمة رواية تركية تفيد بانتهاك المقاتلة للأجواء التركية مما اضطرها للتعامل معها وفق “قواعد الاشتباك” بعد تحذيرها. ورغم رفض الروس – في البدء على الأقل – لهذه الرواية، إلا أن التسجيلات التركية الموثقة والتصريحات الغربية المؤيدة لها جعلتها الرواية الصحيحة وشبه الوحيدة.
بينما ثمة نظريات أخرى على هامش هذه الرواية يمكن تصنيفها تحت عنوان “نظريات المؤامرة” لم تجد حظاً كثيراً في الانتشار تحت وطأة الحديث الساخن عن سيناريهات تطور الازمة بين البلدين، وأهمها أربع:
الأولى، نظرية تعمد تركيا إسقاط الطائرة بغض النظر عن انتهاكها الأجواء (ولو لفترة قصيرة) من عدمه. بمعنى استثمار تركيا لما رأته فرصة مناسبة للرد على روسيا بسبب قصفها للتركمان في الشمال السوري، وفي وضع رأت نفسها فيه أقوى بعد الانتخابات ومحصنة من الناحية السياسية والقانونية كدولة تحمي حدودها وسيادة أجوائها. وقد راجت هذه النظرية في الساعات الأولى للحدث، في ظل ادعات موسكو بقدرتها على إثبات أن طائرتها كانت داخل الحدود السورية حين أسقطت.
الثانية، توريط الناتو لتركيا، إما لمواجهة روسيا بشكل غير مباشر، أو لتقويض التجربة التركية وإدخالها في دوامة النزاعات الإقليمية والدولية، أو لإجبارها على الاقتراب أكثر من الموقف الغربي بعد أن كانت لسنوات طويلة تنحو نحو الاستقلال النسبي في سياستها الخارجية وخاصة في الأزمة السورية، أو كل ذلك معاً. ووفقاً لهذه النظرية فقد قدم حلف الناتو لأنقرة دعماً كاملاً وتشجيعاً محفزاً للتعامل مع أي خرق روسي لأجوائها مما دفعها لهذه الخطوة في حينها.
وقد تحدث عن هذه النظرية بشكل غير مباشر الإعلامي التركي المخضرم فهمي كورو في مقال له قبل يومين حين ذكر بلاده بالتوتر الذي كاد أن يؤدي لحرب نووية بين القوتين العظميين عام 1960 من خلال إسقاط السوفييت لطائرة تابعة للناتو (خرجت من قاعدة إنجرليك التركية للمفارقة) بعد أن كانت قد انتهكت الأجواء السوفيتية مرات ومرات.
الثالثة، تعمد روسيا انتهاك الأجواء التركية واستفزاز أنقرة لعمل مباشر ضد طائرتها، لاستغلال ذلك لاحقاً. ويدفع لتصديق هذه الرواية “حزمة” الردود الروسية الجاهزة والسريعة بعيد الأزمة المفاجئة. لا نتحدث هنا عن العقوبات الاقتصادية المتتالية على تركيا، بل عن تكثيف موسكو لوجودها العسكري واللوجستي في سوريا، من خلال نشر منظومة S400 للدفاعات الجوية، وإنشاء قاعدة أخرى على الأراضي السورية، والسيطرة شبه التامة على الأجواء السورية، بما يعيق/يمنع تحليق طائرات الناتو (وتركيا من باب أولى)، فضلاً عن تشديد القصف على التركمان والمعارضة شمال سوريا وتقويض فكرة المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا.
الرابعة، إسقاط الطائرة من خلال قرار القوات المسلحة التركية دون علم القيادة السياسية، إما لتوريطها أو لأي أسباب أخرى، من خلال قرار ذاتي أو ربما بالتشاور مع جهات أخرى. وهو ما يبدو أن الكاتب الصحافي عبدالقادر سلفي المقرب جداً من دوائر صنع القرار في أنقرة قد أشار له في مقاله قبل يومين، حين أشار إلى “علامات استفهام” تنقدح في الذهن، مستشهداً بتعبير كل من اردوغان وداودأوغلو عن “حزنهما” أو “أسفهما” لهذا الحادث الذي “ما كانا يرغبان في حصوله”، رغم وقوفها الحاسم – وربما المضطر – خلف القرار وأحقية الموقف التركي.
وما دفع سلفي لهذه الشكوك – وفق مقاله – هو أن تركيا استغرقت وقتاً طويلاً لإقناع الولايات المتحدة بالقيام بعملية عسكرية شمال سوريا تمهد لإنشاء المنطقة الآمنة (أو الخالية من داعش)، وأبدى الروس عدم اعتراضهم عليها في قمة العشرين. ويقول سلفي: “في اليوم الذي وافقت فيه الولايات المتحدة، ووعد الروس بعدم إفشال العملية، وأتمت القوات المسلحة التركية الخطة التنفيذية للعملية، وأتى نائب رئيس الأركان الأمريكي لأنقرة لإتمام آخر الترتيبات؛ في اليوم الذي حصل فيه كل هذا، حصل تطور مهم نسف كل ذلك: أسقطنا الطائرة الروسية. !!!
هذه الفرضية أشار إليها بوتين أيضاً في الساعات الأولى للحادثة حين أشار إلى أن “الطائرة أسقطت دون علم اردوغان”، في حين يحتمل المقال المشار إليه أيضاً فرضية النظرية الثالثة المشروحة آنفاً، أي التعمد الروسي، ولكن بحظوظ أقل.
الآن، يفرض السؤال نفسه وبإلحاح: أي هذه النظريات هي الأقرب للواقع والتصديق؟
وفي ظني أن محاولة الإجابة على السؤال/الأحجية تتطلب ملاحظة النقاط التالية، التي أعتبرها من سمات “نظرية المؤامرة” ومنطبقة على الحالة الخاصة لإسقاط الطائرة الروسية:
- اشتمال كل من النظريات السابقة على قرائن توحي بصحتها من جهة الدافع أو المستفيد.
- صعوبة إثبات أو نفي نظرية المؤامرة بشكل عام، وما يتعلق بالمقاتلة الروسية بشكل خاص، باعتبارها أسراراً عسكرية – أمنية لا يمكن التوصل لها، والاكتفاء بالقرائن والإشارات التي لا تكفي للتثبت/النفي.
- إمكانية تقاطع أكثر من نظرية من نظريات المؤامرة مع بعضها البعض أو مع الرواية الرسمية نفسها. فكون الأتراك قد “اضطروا” لإسقاط الطائرة لأسباب إجرائية مثلاً لا ينفي “دعم” الناتو وتشجيعه، أو كون الروس قد يكونون “تعمدوا” افتعال المواجهة.
إذن، لا يمكن الجزم بأي النظريات أصح دون تثبت، ولا يمكن نفي أي منها دون دليل، ولا يمكننا إلا التعامل مع الواقع الذي يقول بشكل جلي وصريح إن كل الأطراف (تركيا وروسيا والناتو) تعمل على زيادة أوراق قوتها وتحصين مواقفها وبناء سيناريوهاتها المستقبلية، بغض النظر أكانت افتعلت الحدث، أم تحاول استثماره فقط، أم حتى تحاول تخفيف نتائجه السلبية عليها.
إن مما يساعد هذه الأطراف على ذلك هو سياساتها المبنية على استراتيجيات واضحة في رسم الأهداف ونسج العلاقات المتشابكة وتنويع وتعميق أوراق القوة والتأثير واستثمار كل ما هو متاح، بينما نغرق نحن – العرب أو المشرقيين – في أوهام النصر المزعوم أو الدعم المتوهم من أحد الأطراف، في حين نفتقد أدنى مقومات الرؤية الصحيحة فضلاً عن امتلاك أوراق القوة والتأثير، ولا نعدو كوننا الساحة التي يتصارعون عليها والرقعة التي يتواجهون فوقها، فكما قال أحدهم صادقاً: الكبار لا يحاربون فوق أراضيهم. !!