لا شك أن الاهتمام بالثقافة والأدب والفن عموماً يخف ويخفت صوته في أزمات الشعوب الكبرى، حيث يكون للسياسة والعسكرة الصوت الأعلى، مصداقاً لما قاله الشاعر العربي المعاصر:
ولتبتلع أبيات فخرك صامتاً .. فالشعر في عصر القنابل ثرثرة
لكن هذا لا يلغي حقيقة واضحة كالشمس في تاريخ الشعوب، أن القلم والبندقية كانا طول الطريق صنوين، لا يفارق أحدهما الآخر في رحلة تحرر الشعوب المستعمرة والمقهورة. فقد كان القلم قبل البندقية: يفتح لها الآفاق وينير لها الطريق، ومعها: يوثق الوقائع ويؤرخ الأحداث، وبعدها: يوضح ويشرح ويصحح حين يقع منها الزيغ عن الطريق المرسوم.
والشعب الفلسطيني ليس بدعاً من الشعوب في هذا المجال، ولن يكون. فلقد حفل تاريخه بالعديد من القامات المثقفة والأديبة، إضافة لعشرات السياسيين الذين كانت لهم اهتماماتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية والفنية.
ولئن كان الله تعالى قد أنعم علينا بعدد كبير من الفصائل، أكبر حتى مما نريد أو نحتاج، فإن الحالة الثقافية الفلسطينية ليست على ذات المستوى، مع ملاحظتنا أننا نحتاج الكيف أكثر من الكم، على الأقل في ساحتنا الثقافية.
من هنا كانت الحاجة ماسة لزيادة عدد ونشاط وأداء وإبداع المثقفين ومؤسساتهم المختلفة، لتحقيق الأهداف التي ذكرناها آنفاً، وللنهوض بالمجتمع، وتصويب أخطائه، وإبراز أوجهه المشرقة، وصياغة جيل جديد من الشباب يقوم على أشجار الثقافة الراسخة وليس على أغصان الانترنت السطحي.
وإلى جانب هذه الأهداف العامة المشتركة مع مختلف الشعوب، أرى أن كل مؤسسة ثقافية فلسطينية ينبغي أن تضطلع بثلاث مهمات إضافية خاصة بالواقع الفلسطيني، هي من الأهمية والخطورة بمكان:
الأولى: التركيز على المشترك ونبذ التفرقة، ليكون لها إسهامها في ردم الهوة بين الأطراف المختلفة على طريق وأد حالة الانقسام في الشارع الفلسطيني، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
الثانية: التعبير عن ضمير الشعب والتمسك بثوابته والدفاع عن حقوقه، في مواجهة بعض القفزات الفردية في الهواء، والراغبة في التنازل عن بعض حقوقه وثوابته، دون تفويض شعبي ولا غطاء فصائلي، ولا حتى مسوغات عقلانية ومنطقية.
الثالثة: الغوص إلى أعماق تفاصيل المشهد الفلسطيني، لكن دون إغفال العمقين العربي والإسلامي (بل والإنساني) لقضيتنا، فلا يمكن بحال أن نكون نحن – أصحاب مشروع التحرر الوطني – قابلين وراضين بحدود سايكس-بيكو التي رسمها لنا الاستعمار. ولا شك أن المؤسسات ذات المسؤولية الوطنية تستطيع أن تميز بوضوح بين حدود خصوصية المشهد والانكفاء على الذات.
ألا حيهلا بكل مؤسسة ثقافية تتكلم باسم الإنسان لا السلطان، وتأتمر بكلمة المواطن لا السياسي، وتصدح بالحق على حساب المصالح، وتنير الطريق لمن عُمِّيَ عليه، وتراقب وتحاسب من شط وزاغ.