نحن ومتغيرات السياسة الخارجية التركية

تعاني تركيا منذ فترة ليست بالقصيرة من عزلة واضحة في السياسة الخارجية جعلها في تناقض واضح مع محور روسيا – إيران – العراق – سوريا (النظام) ولكن أيضاً في اختلاف مع المحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، حليفتها الاستراتيجية.

أسباب هذه العزلة كثيرة وسبق لنا الكتابة فيها تفصيلاً، وفي مقدمتها الإخفاق في إحداث اختراقات مهمة في ملفات المنطقة وأهمها سوريا، ومواقفها المتمايزة عن حلفائها في قضايا الإقليم سيما السورية والمصرية والفلسطينية، والتحديات الداخلية وأهمها مواجهة حزب العمال الكردستاني، والاستحقاقات الانتخابية المتكررة، وتقدم المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا، والعلاقات المتوترة مع الاتحاد الأوروبي وواشنطن، والأزمة مع روسيا، واتفاق فينا بين كيري ولافروف.

وقد أدت هذه العزلة – والإخفاقات – إلى ظهور دعوات داخلية في حزب العدالة والتنمية الحاكم وفي الحكومة لتعديل بوصلة السياسة الخارجية لأنقرة لتكون أكثر “براغماتية وواقعية” كما كانت في السابق. وقد زادت وتيرة هذه التصريحات وتفاصيلها مؤخراً لترد على لسان وزير الخارجية والناطق باسم الحكومة ورئيس الوزراء يلدرم والرئيس اردوغان، وكلها تؤكد على ضرورة “تقليل عدد الخصوم والأعداء وزيادة عدد الأصدقاء” في المنطقة. وقد بدأت مرحلة التقييم والمراجعات منذ شهور عديدة، وأدت إلى متغيرات في ثلاثة سياقات:

الأول، إعادة صياغة منظومة التحالفات التركية والبحث عن شركاء جدد في الإقليم، ولعل أبرز مثال هو التعاون التركي – السعودي.

الثاني، النزوع نحو تعديل اعتماد السياسية الخارجية التركية على القوة الناعمة حصراً وإضفاء شيء من القوة الخشنة، مثل التركيز على الصناعات الدفاعية وبيع الأسلحة وبناء القواعد العسكرية خارج البلاد.

الثالث، محاولة إصلاح العلاقات مع عدد من الدول الإقليمية التي تعاني من فتور و/أو توتر،  أو على الأقل تخفيف حدة الخصومة والمواجهة وتدوير زوايا الخلاف معها.

هذا المساق الأخير – مناط اهتمام هذا المقال – كان يتعلق بالأساس بثلاثة أطراف هي دولة الاحتلال “إسرائيل” ومصر والإمارات العربية المتحدة، وقد قطعت تركيا في ذلك أشواطاً مختلفة مع كل طرف منها على حدة، ثم أضيفت له العلاقة المتأزمة مع روسيا مؤخراً.

ربما يكون المسار المصري هو الأكثر تعثراً لعدم استعداد نظام السيسي لاستحقاقات تصويب العلاقة فضلاً عن الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها، بيد أن العلاقات مع دولة الإمارات مثلاً قد تجاوزت مرحلة القطيعة بزيارة وزير الخارجية التركي لأبو ظبي قبل أسابيع ثم عودة السفير الإماراتي إلى أنقرة منذ أيام. وأما تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال فيبدو على بُعد “لقاء أو لقاءين أخيرين” بين وفدي التفاوض كما صرح بذلك وزير الخارجية التركي بنفسه.

من جهة أخرى تضع تركيا تصويب العلاقة مع موسكو على رأس أولوياتها فيما يبدو، حيث تواترت مؤخراً الإشارات الإيجابية التي ترسلها أنقرة لها، بدءاً من المشاركة – غير السياسية لكن ذات الدلالة – في احتفال اليوم الوطني الروسي الذي نظمته السفارة الروسية في أنقرة، مروراً برسالة التهنئة التي أرسلها اردوغان لبوتين متمنياً أن “تعود العلاقات بين البلدين للمستوى الذي يليق بها” ورسالة رئيس الوزراء التركي لنظيره الروسي، وصولاً للحديث المتكرر في كواليس أنقرة السياسية والإعلامية عن خطة تعمل عليها تركيا لإنجاز ملف المصالحة في شهر آب/أغسطس القادم قبل إعادة العلاقات في كانون الأول/ديسمبر المقبل لما كانت عليه قبل أزمة إسقاط المقاتلة، رغم شروط موسكو المتعلقة بالاعتذار والتعويضات.

الجديد في هذا الملف هو تواتر إشارات كثيرة تظهر تركيا وكأنها متلهفة أو مستعجلة/متسرعة لإنهائه، وهو ما يفتح الباب على أسئلة مشروعة تتعلق بالمدى الذي يمكن أن تصله هذه العلاقات والثمن الذي قد تدفعه تركيا في سبيل تحسينها، باعتبار أن تطبيعها عملية ثنائية تفترض حصول تنازلات من طرفي المعادلة. فإضافة إلى تصريح وزير الخارجية التركي باستعداد بلاده للتعامل مع مخرجات الحل السياسي في سوريا (دون اشتراطات فيما يبدو) وإلى ما يمكن اعتباره “إلحاحاً” تركيا على روسيا لإعادة العلاقات رغم الردود السلبية القادمة من موسكو، حمل ملف المصالحة التركية – “الإسرائيلية” بعض المواقف المستجدة غير المطمئنة.

ففي الرابع من أيار/مايو الفائت، رفعت تركيا “الفيتو” الذي كانت تضعه على مشاركة دولة الاحتلال في مناورات حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأمر الذي تبعه فتح الحلف مكتباً تمثيلياً للأخيرة في مقره في بروكسل معتبراً إياه “مساهمة مهمة في ضمان أمن إسرائيل”. أيضاً، قبل أيام، تم اختيار ممثل “إسرائيل” في الأمم المتحدة لرئاسة اللجنة القانونية وهو منصب لم تصله دولة الاحتلال منذ تأسيسها وانضمامها للمنظمة الأممية، بعد أن رشحتها بالإجماع مجموعة غرب أوروبا التي تنضوي تركيا تحتها، بما يعني أن الأخيرة ساهمت في اختيارها ولم تعترض عليه وقد كان ذلك كافياً لمنع الترشيح (قبل الوصول لعملية التصويت).

حصلت كل هذه التطورات قبل حتى أن يتم إبرام اتفاق تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب حرصاً فيما يبدو على عدم التشويش على ملف التفاوض الذي شارف على الانتهاء، والذي يتضمن بدوره – وفق التصريحات التركية و”الإسرائيلية” – حلاً وسطاً بين رفع الحصار عن غزة والإبقاء عليه تماماً، ما زلنا لا نعرف مداه وصيغته النهائية.

ما يمكن استنتاجه من كل ما سبق أن تركيا 2016 ليست تركيا 2010، وأن استمرار الضغوط عليها من أكثر من طرف يدفعها نحو انتهاج سياسات “أكثر اعتدالاً” وبراغماتية تشبه سياستها الخارجية في بدايات حكم العدالة والتنمية حين كانت على علاقة طيبة مع مختلف الأطراف.

لقد كتبتُ مراراً أن أفضل ما يمكن أن نقدمه لتركيا ولأنفسنا في العلاقة معها هو الفهم الدقيق لواقع تركيا وتشابكات علاقاتها مع حلفائها وخصومها وأسس سياستها الخارجية ومحدداتها، بما يمكــّننا من إدراك سقف العلاقة مع تركيا وممكناتها وهوامشها، ويساهم في تطوير العلاقة بالحد الأقصى الممكن دون خسارة تركيا أو إحراجها أو الإصابة بخيبات أمل بسبب السقوف الخيالية المرتفعة.

من بداهة القول إنه رغم هذه المتغيرات السريعة والمتزامنة في السياسة الخارجية التركية، ورغم ما يبدو من سرعة أو تسرع في إدارة الملف، إلا أننا لا نتوقع انحرافات كبيرة أو تغيرات جذرية في مواقف القيادة التركية. ستبقى أنقرة ضمن حدود دعمها للقضية الفلسطينية وممكنات التفاعل مع المشهد السوري والموقف من النظام المصري تراوحاً بين المبدئية المفترضة والبراغماتية المعهودة.

لكن الفهم لا يعني بالضرورة التفهم، والتفسير لا يجب أن يصل إلى درجة التبرير، واحترام القرار التركي لا يعني الرضى به بالضرورة، ولذلك تقع على عاتق حلفاء وأصدقاء تركيا أو من تدعمهم وتتبنى قضاياهم من الدول والتيارات والأحزاب مسؤوليات عدة، أهمها:

أولاً، التواصل مع القيادة السياسية التركية والتحفظ على بعض المواقف التي يرون أنها لا تصب في مصلحتهم أو مصلحة العلاقة مع أنقرة أو قد تفتح الباب على مواقف أكثر خطورة.

ثانياً، توخي أقصى درجات الحرص لعدم الخروج عن حدود ممكنات تركيا في علاقاتها الخارجية، إذ قد يؤدي إحراجها في بعض الملفات إلى اضطرارها لمزيد من التنازلات لتخفيف الضغوط عنها.

ثالثاً، ترسيخ العلاقة مع تركيا ونقلها من مستوى “الشخصيات القيادية” إلى مستوى “القيادة” في الرئاسة والحكومة والحزب الحاكم.

رابعاً، تعميق العلاقة أكثر فأكثر وعدم الاكتفاء بالتعارف والتعاون مع المؤسسات سابقة الذكر، وتفعيل خيوط التواصل والتفاهم والتعاون مع مختلف الأحزاب التركية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والجامعات وباقي مراكز التأثير في المجتمع.

خامساً، المسارعة إلى لملمة الأوضاع الداخلية لكل طرف وتفعيل عناصر قوته ومعالجة جوانب القصور لديه، بما يجعله صديقاً “أقوى” لتركيا وأقل كلفة وعبئاً عليها، وبما يساعد صانع القرار التركي على موازنة قراراته ومواقفه.

إن العلاقة بين الحلفاء أو الأصدقاء تحتمل هذا وأكثر منه، وليس فيه أبداً أي نكران لما قدمته تركيا وتقدمه لشعوب المنطقة وقضاياها، بل لا يحمل معنى التخلي عن العدالة والتنمية لصالح منافسيه في الساحة التركية. بل المقصود هو التواصل والتناصح بما يخدم الطرفين والعلاقات البينية والمصالح المشتركة ثم تعميق حالة التعاطف والتفاعل لدى الشعب التركي مع القضايا المختلفة، وهو أمر سيساعد القيادة التركية لحرصها الدائم على التناغم مع المجتمع وباعتبار أن ذلك سيخفف من ضغوط المعارضة الواقعة عليها بسبب السياسات المتعلقة بالعالم العربي تحديداً.

أخيراً، تبدو المنطقة في حالة سيولة غير مسبوقة منذ مئة عام تقريباً، وتتراءى تركيا كدولة راغبة في إخماد الحرائق وتخفيف حدة الخصومات معها وتفعيل دورها من خلال إعادة الجسور والعلاقات التي لا غنى عنها لأي دولة ترغب في لعب دور مؤثر في جوارها. وإذا كان هذا حال دولة قوية وحليفة للقضايا العربية والإسلامية المختلفة مثل تركيا، فيمكن تخيل مواقف دول أخرى قريبة من الموقف التركي أو متمايزة عنه. وهو ما يضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها للمشاركة في صياغة السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة من خلال التواصل مع صانع القرار التركي، وتمتين الجبهات الداخلية، وزيادة درجة التفاعل داخل تركيا مع هذه القضايا، ومعرفة الهوامش الرمادية التي يمكن لتركيا وأصدقائها الاستثمار فيها لئلا تؤول بوصلة سياستها الخارجية إلى تغيرات جذرية واستراتيجية لن تكون في صالح أنقرة ولا المنطقة وقواها الفاعلة.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

رفع الحصانة البرلمانية في تركيا بين الحرب على الإرهاب والنظام الرئاسي

المقالة التالية

تركيا وروسيا والنزول عن الشجرة

المنشورات ذات الصلة