ناغورنوكارباخ: ساحة صراع جديدة بين روسيا وتركيا

 

ملخص

يعتبر النزاع حول إقليم ناغورنوكارباخ أحد أبرز الأمثلة على الصراعات المحلية القائمة على خلفيات الاختلاف العرقي – الثقافي والذي يتم إذكاؤه بالتدخلات الخارجية بسبب تقاطعات المصالح الإقليمية والدولية.

وقد أعاد اشتعال النزاع بين أذربيجان وأرمينيا على الإقليم في الثاني من شهر أبريل الجاري إلى الأذهان خريطة التحالفات الإقليمية والدعم الدولي المقدم لكل منهما، خصوصاً وأنه يتزامن مع تطورات إقليمية مهمة، مثل تطورات الأزمة السورية وإعلان روسيا عن انسحابها منها، فضلاً عن الأزمة الروسية – التركية المستمرة منذ إسقاط المقاتلة الروسية.

تسعى هذه الورقة لدراسة محددات وواقع التحالفات المتعلقة بالنزاع في الإقليم على محوري أنقرة – باكو وموسكو – يريفان، وانعكاسات حالة التصعيد على التوتر الروسي – التركي.

فيما يتعلق بإمكانية ومدى تدخل روسيا وتركيا في النزاع، تضع الورقة ثلاثة سيناريوهات، هي الاشتباك الروسي – التركي المباشر في حال فقد الطرفين السيطرة على تطورات الأحداث، والمفاوضات التركية – الروسية الشاملة لمختلف الملفات العالقة بينهما، وبقاء الحال على ما هو عليه على شكل حرب.

 

مقدمة وخلفية تاريخية

خضع إقليم ناغورنو كارباخ الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذرية لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم ألحق بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان متمتعاً بحكم ذاتي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. ومع مطالبات الاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلة عام 1991، ألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حرباً ضد المجموعات الأرمنية الانفصالية، توسعت لتصبح حرباً مع أرمينيا التي قدمت لهم الدعم العسكري واللوجستي.

نتجت الحرب التي استمرت بين 1992 – 1994 عن خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لست مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها، فضلاً عن سقوط 30000 قتيل وتهجير ما يقرب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من الأذريين(1).

لم تنته الحرب باتفاق سلام نهائي يحل المشكلة رغم اعتبار الأمم المتحدة أرمينيا دولة محتلة لأراض أذرية، كما أنشأت منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) مجموعة “مينسك” بعضوية كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود حل مشكلة الإقليم دون إنجازات تذكر. ولذلك فقد تجدد الصراع في الإقليم أكثر من مرة، آخرها في الثاني من أبريل/نيسان الحالي كأقوى مواجهات عسكرية بين أذربيجان وأرمينيا منذ 22 عاماً.

 

التحالفات الإقليمية

يعتبر النزاع في إقليم ناغورنو كارباخ أحد الأمثلة على الصراعات العرقية – الحضارية التي نشبت بعد نهاية الحرب الباردة مباشرة، كنزاعات محلية بتأثيرات إقليمية و/أو دولية،  حيث شاركت فيه و/أو تأثرت به عدة دول إقليمية وعالمية مثل أذربيجان وأرمينيا، وتركيا وروسيا وإيران وجورجيا، ثم أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا واليابان(2).

خلال الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، قدمت روسيا مساعدات عسكرية مباشرة لأرمينيا في حين دعمت تركيا أذربيجان وأغلقت الحدود التركية – الأرمينية، وإن لم تنخرطا فعلياً في الحرب(3). لاحقاً، وعلى مدى سنوات طويلة تعمقت العلاقات على طرفي النزاع بحيث أمكن الحديث عن محوري تركيا – أذربيجان وتلتحق به جورجيا بدرجة أقل في مواجهة محور روسيا – أرمينيا وتلتحق به إيران بدرجة أقل.

تصوغ تركيا موقفها من النزاع وفق منظومة متشابكة من العوامل الدينية والتاريخية والعرقية والمصالح الاقتصادية والسياسية، أهمها:

1- ما يجمعها مع أذربيجان من مشتركات الدين واللغة والعرق، بما يجعل العلاقة معها حساسة ومحورية، تجملها الجملة الأشهر التي يرددها الساسة من الطرفين “شعب واحد في دولتين”(4).

2- مسؤوليتها الأخلاقية – التاريخية تجاه الشعب الآذري، المستمدة من تاريخ الدولة العثمانية.

3- بالنظر إلى الخرائط الجغرافية والجيوبوليتيكية للمنطقة، فإن العلاقة الخاصة بين تركيا وآذربيجان بمثابة طوق نجاة للأولى من حصار خصومها (روسيا – أرمينيا – إيران) لها، فضلاً عن كونها ساحة مواجهة وتنافس معهم.(أنظر الخريطة في الأسفل)

4- دعم أذربيجان كموازن إقليمي لأرمينيا تحديداً، والتي تتسم علاقاتها مع تركيا بعداوة عميقة تتعلق بأحداث 1915 التي تسعى أرمينيا وأرمن المهجر لتثبيت تسميتها بـ”المحرقة”. لذلك اعتبر أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية لتركيا في السنوات الخمسة عشر الأخيرة ورئيس وزرائها الحالي احتلال أرمينيا لخُمس الأراضي الأذرية في الحرب “من أهم الخسائر الاستراتيجية التي منيت بها تركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة”(5).

5- تأثير وضع إقليم ناغورنوكارباخ على سياسات تركيا تجاه منطقتي البلقان والقوقاز، ومقدار فاعليتها في حوضي الأدرياتيكي وقزوين بشكل مباشر. ذلك أن حل مشكلة الإقليم وإزالة الحاجز الأرميني سيمكنها من التواصل – عبر منطقة ناهتشيفان – مع أذربيجان والجمهوريات التركية في آسيا الوسطى بما يصنع منها قوة إقليمية كبرى(6).

6- الترابط والتكامل بين السياسات التركية في كل من البلقان والقوقاز والشرق الأوسط، أو ما أسماها أحمد داود أوغلو “المناطق البرية القريبة”، باعتبارها وحدة متكاملة من الناحية الجيوسياسية، كما يشكل النفط الأذري وموارد الأناضول المائية وموارد شمال العراق النفطية وحدة متكاملة من الناحية الجيواقتصادية(7).

7- تعتبر أذربيجان – ذات الأغلبية الشيعية – نموذجاً متمايزاً عن النموذج الإيراني فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، ولذلك تضع تركيا العلاقات معها والدعم المقدم لها في إطار التنافس والتوازن مع إيران في الإقليم(8).

8- العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين تركيا وأذربيجان، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما عام 2015 حدود 3.5 مليار دولار(9)، فيما تستثمر 2665 شركة تركية في أذربيجان، فضلاً عن تقديم تركيا للأخيرة ما يزيد عن 320 مليون دولار منذ 2004 كمساعدات مباشرة للمشاريع التنموية. وتجمع البلدين عدة إطارات اقتصادية أهمها اللجنة الاقتصادية المشتركة والمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي(10).

9- أمن الطاقة التركي المرتبط بأذربيجان إحدى أهم الدول المصدرة للغاز الطبيعي، والتي تحاول تركيا من خلالها تقليل نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني، حيث تستورد أنقرة %55 من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا و%16 من إيران و%13 من أذربيجان(11). تؤمن مشاريع مد أنابيب الغاز الآذري حاجيات تركيا من الغاز الطبيعي فضلاً عن كونها ممراً لغاز بحر قزوين إلى الدول الأوروبية، مثل مشروعي باكو – تيفليس – جيهان و”تاناب” (مشروع غاز عبر الأناضول) الذي يتوقع الانتهاء منه عام 2018(12).

 

بالنسبة لروسيا، فتصوغ مقاربتها للنزاع وفق محددات مهمة أيضاً، أهمها:

1- إرث روسيا التاريخي في السيطرة على المنطقة في عهدي روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي.

2- تشكل منطقة جنوب القوقاز (أرمينيا – أذربيجان – جورجيا) بالنسبة لروسيا عمقاً استراتيجياً وحديقة خلفية لا يمكن التفريط باستقرارها وأمنها.

3- المنافسة على أحواض الغاز الطبيعي في بحر قزوين، وخطوط مروره إلى أوروبا.

4- تعتبر أرمينيا شريكاً استراتيجياً لروسيا، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

5- أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي (وهي المنظمة التي انسحبت منها كل من أذربيجان وجورجيا عام 1999)(13)، كما انضمت عام 2014 إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي(14).

6- تعتبر روسيا ضامنة للأمن والاستقرار في جنوب القوقاز وحوض بحر قزوين، كقوة إقليمية عسكرية، وكدولة سيطرت تاريخياً على المنطقة، وباعتبارها أيضاً مصدرا مهماً للسلاح لكل من أرمينيا وأذربيجان على حد سواء (15).ولعل ذلك يفسر مسارعتها لرعاية ودعم اتفاق وقف إطلاق النار في الخامس من نيسان/أبريل أي بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الاشتباكات (16).

7- التأثير الأرميني الكبير في الداخل الروسي حيث قدر الإحصاء السكاني في روسيا عام 2002 عدد الأرمن فيها بـ 1.3 مليون شخص(17)، بينما يتجاوز عددهم وفق بعض الدراسات الحديثة المليونين(18)، بما يجعلها الجالية الأرمينية الأكثر تعداداً في العالم.

8- يعتبر النفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز موازناً مهماً للدور التركي ومن خلفه الأمريكي والأوروبي فيها، فضلاً عن إعاقته تواصل تركيا مع الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى سعياً لإنشاء “الممر التركي” الكبير(19).

9- تحتفظ روسيا بقواعد عسكرية على الأراضي الأرمينية في منطقتي أربوني (Erebuni) وغيومري (Gyumri) القريبة من الحدود التركية، كما تسيطر طائراتها على المجال الجوي الأرميني(20).

10- يتكامل التواجد الروسي العسكري في أرمينيا مع تواجدها العسكري في جورجيا وعلاقاتها الاستراتيجية المتنامية مع إيران، ضمن منظومة موسكو الجيوبوليتيكية(21).

11- تسعى روسيا لاحتواء ومنع تقارب أرمينيا مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث شاركت أرمينيا مع الحلف في مهمات لحفظ الأمن في أفغانستان والبلقان(22)، كما ينشط اللوبي الأرمني بقوة في واشنطن وبروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي والناتو)، وبذلك يمكن فهم بيع موسكو الأسلحة لأذربيجان كضغط على يريفان والإبقاء على حاجتها لها في مجال التسليح.

 

ما بعد الأزمة التركية – الروسية

منذ تجدد الاشتباكات، يتبادل الطرفان الأرميني والأذري الاتهامات بتحمل مسؤوليته، بيد أن التصعيد المفاجئ وتزامنه مع عدد من المتغيرات الإقليمية المتعلقة بروسيا وتركيا تحديداً – كأزمة إسقاط الطائرة والإعلان عن الانسحاب الروسي والحل السياسي في سوريا – يعطيان إشارات على البعد الإقليمي للتصعيد.

يمكن ملاحظة المستجدات التالية على مستوى التحالفات القائمة مؤخراً:

أولاً، دعم تركيا للتشكيلات العسكرية الأذرية في إقليم ناهتشيفان الذي يتمتع بحكم ذاتي، والتي تم تجميعها منذ 2013 تحت اسم الجيش المشترك الخاص(23).

ثانياً، بدء اجتماعات مشتركة ودورية لوزراء دفاع كل من تركيا وأذربيجان وجورجيا منذ عام 2014.

ثالثاً، تفقد قائد القوات الخاصة التركية زكائيأقصاكاللي (Zekai Aksakallı) للقوات الأذرية على الجبهة مع أرمينيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وتصوير وسائل الإعلام له وهو يجرب بندقية قنص، في رسالة واضحة عن الدعم التركي الصريح لباكو (24).

رابعاً، الاتفاق التركي – الأذري بتقريب موعد افتتاح مشروع “تاناب” لتزويد تركيا بالغاز الطبيعي الأذري ومروره عبرها إلى أوروبا، بحيث ترتفع حصة تركيا منه من 7 مليار م3حالياً إلى 31 مليار م3 بحلول العام 2026. دخول المشروع حيز العمل والإنتاج سيعني تراجع اعتماد تركيا على الغاز الطبيعي الروسي إضافة لانخفاض إضافي في سعره العالمي، وهما تطوران مضران جداً بأمن الطاقة الروسي والدور الأرميني في خطوط الطاقة. ولذلك فقد اعتبر رئيس اتحاد اقتصاد الطاقة الدولي جوركانكومبارأوغلو أن التصعيد يتعلق بخطوط مرور الغاز إلى أوروبا بعد سنوات أكثر مما يرتبط بالإقليم نفسه (25).

خامساً، تنظيم مناورات “تورازكارتالي” (نسر توراز) الجوية بين تركيا وأذربيجان في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2015 (26)، ثم مناورة “توراز شاهيني” (صقر توراز) في آذار/مارس 2016(27).

سادساً، دعوة رئيس إقليم ناغورنوكارباخ باكو ساهاكيان روسيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 لاستخدام مطار ستيباناكيرت/خانكنتفي عاصمة الإقليم لأهداف “مكافحة الإرهاب”(28).

سابعاً، توقيع أرمينيا اتفاقاً مع روسيا يتضمن توحيد نظامي الدفاع الجوي تحت “قيادة مشتركة” في كانون الأول/ديسمبر 2015(29).

ثامناً، زيادة روسيا لعديد طائراتها المقاتلة وجنودها في قواعدها في أرمينيا، وخاصة قاعدة غيومريالقريبة من تركيا في كانون الأول/ديسمبر 2015، لتضاف إلى زيادات وتطويرات سابقة منذ 2010(30). وتشمل هذه المقاتلات طائرات ميغ – 29 وسوخويSS-26 التي يمكنها نظرياً استهداف الفرق العسكرية التركية شرق الأناضول، فضلاً عن انتهاكها معاهدة القوات النووية متوسطة المدى مع الولايات المتحدة (31).

تاسعاً، تاسعاً، تزامن تجدد الاشتباكات مع تواجد الرئيسين الأذري والأرميني في واشنطن في قمة أمن الطاقة النووية الذي تغيبت عنه موسكو، واجتماع جون كيري مع كل منهما على حدة للبحث في سبل حل مشكلة الإقليم. الأمر الذي يمكن اعتباره رسالة للولايات المتحدة لعدم التدخل ولأذربيجان بعدم توثيق العلاقات معها، سيما وأن لها سوابق تدخلات عسكرية على خلفية تقوية بعض الدول للعلاقات مع الغرب/الناتو، مثل جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا(32).

 

 

السيناريوهات المستقبلية

في مقارنة مباشرة للجيشين الأذري والأرميني وفقاً لموقع Global Fire  Power يظهر الجيش الأذري في المركز الـ 60 فيما يكتفي الجيش الأرميني بالمركز الـ 94 من أصل 126 جيشاً على مستوى العالم. الجدول التالي يتضمن مقارنة عددية بين الجيشين وفق أهم المعايير المعتمدة في الموقع:

 

 

المعيار أذربيجان أرمينيا
الترتيب العالمي 60 94
أفراد القوات المسلحة الفاعلين 70000 70000
جنود الاحتياط 300000 210000
عدد الطائرات الإجمالي 127 63
عدد المروحيات الإجمالي 85 41
عدد الطائرات الهجومية 29 11
عدد الطائرات المقاتلة 18 0
عدد المروحيات الهجومية 18 15
عدد الدبابات 314 166
ميزانية الدفاع السنوية (مليون دولار) 3185 225

ملحوظة: المعلومات المتاحة في الموقع محدثة بتاريخ 24/01/2016(33).

 

بيد أن المقارنة العسكرية المباشرة ليست ضمن أولويات هذه الورقة التي تركز على الانعكاسات المباشرة على التوتر التركي – الروسي، فضلاً عن أن القدرات العسكرية المباشرة لطرفي النزاع الميداني ليست هي ما سيحسم الصراع بطبيعة الحال.

وفق تاريخية الأحداث وتداعياتها الحالية، وربطاً بالتحالفات الإقليمية سالفة الذكر، وبعد تقييم التطورات الأخيرة، يمكن رصد ثلاثة سيناريوهات ممكنة فيما يتعلق بتأثير حالة التصعيد الحالية على الأزمة التركية – الروسية:

 

أولاً، سيناريو المواجهة العسكرية، بحيث لا يمكن السيطرة على المواجهة الحالية بل تضطر الدولتان للانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة، قد تتطور إلى مواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي وفقاً للمادتين الخامسة والسادسة من نظامه الأساسي (34).

يدعم فرص هذا السيناريو التحالفات القائمة فعلياً على محوري روسيا – أرمينيا وتركيا – أذربيجان، فضلاً عن عضوية الثنائي الأول في منظمة معاهدة الأمن الجماعي واتفاقيات الثنائي الثاني تحت إطار المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي اللتين تفرضان “تقديم الدعم” للدولة التي تتعرض للاعتداء، رغم أن هذه الاتفاقيات لا تحدد تماماً شكل الدعم المقدم ولا تنص على كونه عسكرياً، وإن كانت تشمله بعمومية النص بطبيعة الحال.

ومن العوامل التي تزيد من فرص هذا السيناريو أيضاً استمرار حالة التوتر بين البلدين دون انفراجات ولو نسبية، رغم مرور خمسة أشهر على إسقاط المقاتلة الروسية، إضافة إلى المواقف الحادة التي اتخذها رئيسا البلدين خلال الأزمة.

لكن هذا السيناريو مستبعد جداً لحرص كل من روسيا وتركيا ومن خلفها حلف الناتو على عدم الوصول لمواجهة مباشرة لأسباب عدة، أهمها الكلفة الباهظة لأي مواجهة عسكرية بين موسكو وأنقرة واحتمالات تورط حلف الناتو فيها، وتأثيراتها السلبية على خطوط نقل الطاقة من المنطقة، وتوزع الجهد والتركيز الروسيين في المواجهة مع الناتو على عدة جبهات منها سوريا وأوكرانيا وجورجيا، والتوافق الأمريكي – الروسي في الملف السوري على مسار الحل السياسي، والضائقة الاقتصادية الروسية، وافتقار تركيا لمنظومة صاروخية دفاعية، وحالة الحرب الباردة شبه الروتينية التي تحولت إليها الاشتباكات الأذرية – الأرمينية.

 

ثانياً، سيناريو التفاوض والحل، بحيث تنضم مسألة إقليم ناغورنوكارباخ إلى ملفات التنافس الروسي – التركي، والروسي – الأطلسي، بما قد يفتح المجال على مساومات تؤدي إلى صفقة ما بخصوصه. فالعلاقة الخاصة بين تركيا وأذربيجان قد تؤهل الأولى للعب دور الوسيط أو الضاغط على باكو لتهدئة الأوضاع، بل قد تصل ربما إلى إدخالها ضمن مجموعة “مينسك” الراعية للحل في الإقليم، خصوصاً إذا ما طلبت روسيا منها لعب دور أو ممارسة الضغط على باكو.

مما يعزز فرص هذا السيناريو الرفض المبدئي من الطرفين للمواجهة العسكرية كما ظهر في أزمة إسقاط المقاتلة وكما يتضح من تصريحات المسؤولين الأتراك والروس مؤخراً(35)، والدعم الأوروبي المقدم لتركيا والحرص عليها وعلى دورها مؤخراً على هامش أزمة اللاجئين، وتوقيف تركيا قاتل الطيار الروسي بعد سقوط طائرته كإشارة على بادرة حسن نية من أنقرة رغم أنه أوقف على ذمة قضية أخرى(36)، فضلاً عن عجز ثلاثية “مينسك” حتى الآن في بلورة حل مستدام للأزمة مما فتح الباب على اعتراضات واقتراحات حول بنيتها وعضويتها بما قد يطرح فكرة ضم تركيا لها كعضو أو كمحاور، مثل الاتهامات الأذرية لها بالانحياز لأرمينيا بسبب عضوية روسيا فيها، وانتقادات تركيا مؤخراً لها لفشلها في إنجاز اتفاق نهائي(37)، وبعض الاقتراحات الأوروبية بالتدخل والمساعدة(38).

بيد أن هذا السيناريو مستبعد على مدى المنظور لعدة أسباب أهمها تقييم روسيا للأزمة باعتبارها تقع في جوارها القريب الذي لا يمكن أن تسمح بالإخلال بتوازناته عبر دور تركي فاعل، والعلاقات غير الطبيعية التي ما زالت سائدة على محور موسكو – أنقرة، وغياب التكافؤ العسكري والاستراتيجي بينهما، واعتراض أرمينيا – فضلاً عن روسيا – المتوقع على إشراك تركيا في أي وساطة أو حوارها مع مجموعة “مينسك” من مبدأ الندية، والشعور الأذري بوجود فرصة حقيقية لاسترجاع أراضيها المحتلة في ظل تفوقها العسكري وضائقة يريفان الاقتصادية.

 

ثالثاً، سيناريو الحرب بالوكالة، بحيث تستمر الاشتباكات بين الطرفين باستمرار الدعم المقدم لكليهما دون أن تنضج الظروف لتتيح إمكانية حل توافقي بين الفرقاء المحليين، ودون أن تتدحرج أيضاً إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين داعميهم الإقليميين. وهو سيناريو يتضمن أيضاً خفوت حدة الاشتباكات لحين أو توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار قبل أن تعود لسابق وتيرتها في وقت لاحق على المديين القريب أو المتوسط، لكن دون أن يكون تراجع حالة التصعيد مبنياً على اتفاق بين الأطراف المتنازعة و/أو الداعمة.

هذا السيناريو هو الذي ترجحه الورقة على سابقـَيْه، وفقاً لمجمل السياقات السابقة، وباعتبار أن المواجهة العسكرية غير مرغوبة ولا مقدور على تحمل كلفتها الكارثية إقليمياً ودولياً، في مقابل غياب الدوافع الكبيرة لتسويات شاملة بين الطرفين تسري على أكثر من ملف في آن معاً، وبذلك تتحول مشكلة الإقليم إلى ملف ثانوي على أجندة التنافس التركي – الروسي والأطلسي – الروسي يتأثر بانعكاسات الأزمة السورية على وجه الخصوص والأزمات في كل من جورجيا وأوكرانيا وغيرهما بشكل عام.

وفق هذا السيناريو، تبقى الأمور عرضة للتطور مستقبلاً في كلا الاتجاهين، بحيث يمكن أن تتطور الاشتباكات المحلية إلى مواجهة إقليمية في حال حصول تطورات غير محسوبة، وقد توصل نتائج التصعيد الحالي الفرقاء إلى قناعة بضرورة التهدئة والحل التوافقي.

وفي إطار هذه القراءة، سيكون السيناريو الثاني المتمثل بالتفاوض أو التوافق أوفر حظاً وفق المعطيات الحالية من السيناريو الأول المتمثل بالمواجهة المباشرة بين تركيا وروسيا بغض النظر عن نتائج التفاوض ومستوى التوافق. بينما سيكون سيناريو التصادم العسكري بين موسكو وأنقرة تطوراً مفتوحاً على طيف واسع من الاحتمالات المتعلقة بمدى ومستوى وحدود المشاركة أو الممانعة الأمريكية والأطلسية للمواجهة، ويبقى بذلك رغم ضآلة فرصه خطيراً وعالي التكلفة بالنسبة لجميع الأطراف على المستويات الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية.

وفي كل الحالات الثلاث، أي تدحرج الأمور إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو ارتقائها لبلورة اتفاق ما أو بقائها على ما هي عليه، فإن ما سيحدد مسار الأحداث بشكل رئيس سيكون مدى إمكانية حدوث تبدل كبير أو غير محسوب – إيجاباً أو سلباً – فيما يتعلق ببعض المتغيرات الإقليمية أو الدولية، وفي مقدمتها القضية السورية، والأزمة الاقتصادية الروسية، وانتخابات الرئاسة الأمريكية.

 

خاتمة

إن تفجر الاشتباكات مجدداً بين أرمينيا وأذربيجان بعد حوالي 22 عاماً من انتهاء الحرب بينهما بسبب إقليم ناغورنوكارباخ يشير بشكل واضح إلى خطورة الأزمات المبنية على اختلافات إثنية – حضارية وإلى دور الدول الإقليمية والعالمية الداعمة للفرقاء المتنازعين في الميدان – تحفيزاً وتثبيطاً – سواء بسواء.

بيد أن العلاقة بين الدول الداعمة والأزمة المحلية قد تتفاعل أحياناً في الاتجاه المعاكس، بحيث يمتد النزاع المحلي المحدود ليصبح مواجهة إقليمية أو عالمية، كما حصل في أمثلة تاريخية في مقدمتها الحرب العالمية الأولى.

إن المواجهة الحالية في الإقليم المتنازع عليه تحمل صفات نزاعات ما بعد نهاية الحرب الباردة، وخصوصاً التدخلات الخارجية من عدة أطراف بسبب تشابكات العلاقات والمصالح والتنافس. وقدركزت هذه الورقة على محور واحد من هذه العوامل الخارجية وهو محور التوتر الروسي – التركي باعتباره أحد أهم المؤثرات على سير الأحداث، وباعتباره قابلاً للتأثر – أكثر من غيره ربما – بمسار التطورات على الجبهة الأرمينية – الأذرية.

وقد خلصت الورقة إلى أن استمرار الاشتباكات بمستوى معين هو السيناريو المرجح وفق المعطيات الحالية لعدة أسباب في مقدمتها عدم تشكيلها خطراً مباشراً على الدول الداعمة وغياب سياقات وظروف التوصل لحل سياسي توافقي يرضي جميع الأطراف، كما هو حال أغلب النزاعات المحلية من هذا النوع، بينما لا يمكن القطع بعدم إمكانية حصول مواجهة عسكرية إقليمية في أي وقت قد تخرج فيه ظروف المواجهة المحلية عن الخط المرسوم لها، عفوياً أو بتخطيط أحد الأطراف.

 

المصادر:

  • محمد عبدالعاطي، ناغورني قره باغ: جذور الصراع وعوائق التسوية، الجزيرة نت، 17 آذار/مارس 2008، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/3NYswv

 

  • داود أوغلو، أحمد، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 152.

 

3- Alla Mirzoyan, Armenia, the Regional Powers, and the West: Between History and Geopolitics, 2010, p 33.

 

4- Turkey and Azerbaijan: one nation two states in affairs, Hurriyet Dailynews, 1 December 2010, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/X5Ca8E

 

5- داود أوغلو، أحمد، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 153.

 

6- المصدر السابق، ص 154.

 

7- المصدر السابق، ص 154.

 

8- رسلان قوربانوف، تداعيات الإستراتيجيات الإقليمية على الداخل الأذربيجاني، الجزيرةنت، 27 كانون الثاني/يناير 2013، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/QSi1uk

 

9- العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أذربيجان، موقع السفارة التركية في أذربيجان، 23 شباط/فبراير 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/SM0MkC

 

10- الاقتصاد الأذري، موقع وزارة الاقتصاد التركية، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/WR7WxM

 

11- Türkiye Doğalgaz’da Rusya’ya ne kadar bağımlı, BBC Türkçe, 4 December 2015, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/ZokTeW

 

12- Turkey and Azerbaijan Agree to to speed up TANAP Project, TRT World, 4 December 2015, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/f2dSMA

 

13- منظمة معاهدة الأمن الجماعي، الجزيرة نت، 2 تموز/يوليو 2012، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/ZN3N0h

 

14- Armenia Joins Russia-Led Eurasian Economic Union, The Moscow Times, 2 January 2015, (Last Entrance: 18 April 2016):http://goo.gl/iOtejN

 

15- روسيا لن توقف مبيعات السلاح لأذربيجان وأرمينيا، أخبار العالم، 9 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/73NcUx

 

16- اتفاق لوقف إطلاق النار في ناغورنو قره باغ، BBC العربية، 5 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/orHSfK

 

17- About Community, Armenian Embassy to the Ruyssian Federation, (Last Entrance: 18 April 2016): http://russia.mfa.am/en/community-overview/

 

18- Robert A. Saunders, Vlad Struko, Historical dictionary of the Russian Federation, (Scarecrow Press, 2010), p. 50.

 

19- Jeffrey Mankoff, Why Russia and Turkey Fight – A History of Antagonism, Foreign Affairs, 24 February 2016 (Last Entrance: 18 April 2016): https://www.foreignaffairs.com/articles/turkey/2016-02-24/why-russia-and-turkey-fight

20- Russia to beef up military presence in former Soviet space, The Telegraph, 25 April 2016, (Last entrance 18 April 2016): http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/europe/russia/7952433/Russia-to-beef-up-military-presence-in-former-Soviet-space.html

 

21- ألكسندر دوغين، أسس الجيوبوليتيكا – مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة عماد حاتم، (دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2004)، ص 244 وما بعدها.

 

22- الأمين العام للناتو يشكر أرمينيا لمساهمتها في تنفيذ مهام الحلف في كوسوفو وأفغانستان، أرمن برس، 10 آذار/مارس 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/kZwrnR

 

 

23- Can Kasapoğlu, İs Armenia the Next Turkish – Russian Flashpoint, The Washington İnstitute, 4 April 2016, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/fwfjV3

 

24-  Special Forces Commander General Staff Aksakallı, visited the Front Line Armenia – Azerbaijan, Haber Monitor, 8 November 2014, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/9pP95J

 

25- Karabağ Bahane Hedef TANAP, Star, 6 April 2016, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/IYjK6a

 

26- Zakir Hasanov attends “TurAZ Falcon 2015 drills“, Azvision Az, 3 Septmeber 2015, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/JnwPfq

 

27- Türk ve Azeri savaş uçaklarından “TURAZ Şahini” tatbikatı, Haberturk, 28 Mart 2016, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/rWAugR

 

28- Can Kasapoğlu, İbid.

 

29- روسيا وأرمينيا توحدان نظاميهما للدفاع الجوي في القوقاز، روسيا اليوم، 23 كانون الأول/ديسمبر 2015، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): https://goo.gl/CnNRIt

 

30- قبرص وأرمينيا وأوكرانيا، ساحات جديدة لـ«الحرب الباردة» بين روسيا وتركيا، القدس العربي، 9 كانون الأول/ديسمبر 2015، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://www.alquds.co.uk/?p=448079

 

31- Brenda Shaffer, Fightnig in the Caucasus: İmplicaitons for the Wider Region, The Washington İnstitute, 7 April 2016, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/WtWwRj

 

32- Brenda Shaffer, İbid.

 

33- Military power comparison results for Azerbaijan vs. Armenia, Global Fire Power, Last Updated 21 January 2016: http://goo.gl/IpVP9x

 

34- النظام الأساسي لحلف شمال الأطلسي، موقع حلف شمال الأطلسي، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/0yex6T

 

35- بوتين: روسيا تعتبر صديقة تركيا، العربية نت، 14 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016):http://goo.gl/iVO4Bq

 

36- تركيا تعتقل قاتل الطيار الروسي، السفير، 1 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/uE0OHK

 

37- أردوغان: تهاون “مينسك” أدى لتواصل الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، تركيا بوست، 3 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 18 نيسان/أبريل 2016): http://goo.gl/SLjtYl

 

38- Merkel: Germany ready to help settle Karabach conflict, Trend News Agency, 6 April 2016, (Last Entrance: 18 April 2016): http://goo.gl/Tyvb4x

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

جدلية الإخوان والثورة والدور المطلوب

المقالة التالية

التدخل التركي المفترض في سوريا .. الثابت والمتغير

المنشورات ذات الصلة