لبيت دعوة كريمة قبل أيام لحضور “الرواق الثقافي” الأول في إسطنبول من تنظيم بيت فلسطين للشعر وثقافة العودة، الذي تضمن عدة فقرات ثقافية وفنية، وكانت فقرته الرئيسة حواراً حول فنان الكاريكاتور المبدع ناجي العلي وطفله الغاضب “حنظلة”، حيث يصادف هذا الشهر ذكرى اغتيال الأول (29 آب/أغسطس 1987).
وقد جال بنا الحوار وطوَّف في عدة محاور، كان أهمها ربما: هل مات حنظلة، أم ما زال حياً – فينا ومعنا – وسيبقى خالداً؟ وأذكر أنني أجبت في مداخلتي: ما زال حياً، لكنه أخرِسَ. ولهذه الإجابة علاقة وطيدة بتعريف الثقافة والمثقف – عنوان الرواق – وهنا نعود لنقطة البداية.
ذلك أنني لا أقبل من تعريف الثقافة “معرفة كل شيء عن شيء وشيء عن كل شيء”، ذلك التعريف السطحي لمن يملك معلومات عامة ونظرية عن بعض العلوم، بل أراني أقرب إلى تعريف المثقف – ومن خلاله الثقافة – على أنه صاحب الرأي والموقف، المتخطي لنطاق عمله للاهتمام بالشأن العام والتفاعل معه.
والحديث عن ناجي العلي رحمه الله ذو شجون، ليس لأنه قتل غيلة في وضح النهار، ولا لأنه دفع ثمن موهبته ورأيه ومواقفه دماً، ولا لأننا حتى اليوم لسنا متأكدين من هوية قاتله، الموساد أم منظمة التحرير، بل لأنه حجة علينا وعلى مثقفي زماننا، ونموذج يجب أن نقاضَى ونحاكَم على أساسه.
لقد كان ناجي نموذجاً متميزاً، لكنه كان أيضاً فرداً في تيار واسع من المثقفين – شعراء وأدباء وفنانين – تخطوا كل الحدود (على ما لدينا من بعض التحفظ) وأزالوا القداسة عن السلطة – أي سلطة وكل سلطة – في زمن لم يكن يجرؤ على ذلك كثيرون. ناجي العلي وأحمد مطر ومظفر النواب وغيرهم كثير، كانوا حالة ثقافية قومية – يسارية تربى على نتاجها جيل كامل.
واليوم، علينا أن نسأل أنفسنا عن مكان ومكانة ناجي – وحنظلة – في حياتنا الثقافية. من يحتفي بهما، ومن يغرس في الأطفال قيمهما، ومن سار على دربهما؟؟ هنا تذوب الإجابة خجلاً، وتقول: إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم.
إن الإسلاميين الذين ورثوا صدارة السياسة وقيادة التيار الأساسي في العالم العربي منذ عقود أول المسؤولين عن هذه الكارثة – ويليهم اليساريون والقوميون بالتأكيد – إذ تغير في زمانهم مفهوم ومستوى وحدود المثقف، وبطبيعة الحال مواقفه. فقد بات من النادر أن تجد حالة نقدية متمايزة عن النظام والسلطة، الحليفة قبل الخصمة، وغلب على تيار المثقفين العرب اليوم المجاملات والنفاق والتربيت على أكتاف الفشلة. كما لا أراني مضطراً للإسهاب كثيراً لإثبات أن الحالة الثقافية “الإسلامية” لم ترق حتى اليوم من ناحية الفنية – التقنية إلى مستوى الحالة الثقافية “القومية” أو “اليسارية” بكل ضروبها: الشعر والأدب والفن، فضلاً عن عزوف عامة الشعب وتحديداً فئة الشباب عن الثقافة والمثقفين، وخاصة أصحاب المواقف.
لقد قدم ناجي العلي حياته فداءً لموقفه واحتراماً لذاته وقضيته، مع أنه كان يعلم أن الحبر الذي انتقد به سلطات مقدسة في زمانه قد يكون ثمنها في عرفهم دمه وليس مجرد دمعه، ولذلك فقد كتب مراراً “لا لكاتم الصوت” الذي قتل به.
ناجي العلي، في ذكرى اغتياله الثامنة والعشرين، يعيد تذكيرنا بأن المثقف ضمير السياسي لا لسانه وبوصلته لا سلاحه ومرشده لا تابعه، وأن مهمة المثقف الأولى – بل رسالته – هي التبصير بالعيوب والأخطاء لتصويب المسار عبر النقد البناء، للصديق قبل الخصم والعدو، وإلا تركت الساحة للمصفقين والمطبلين ليمعن الساسة في غيهم وتيههم.
في ذكرى ناجي، لا يجب أن ننشغل بأسئلة عن حياته ومماته وموهبته ومواقفه، فربما أغنانا رفيق دربه أحمد مطر بقصيدته الرائعة “ما أصعب الكلام”، بل يجب أن ننشغل بنقد حالتنا الثقافية ومثقفينا، حتى يقوموا بدورهم التنويري والريادي والنقدي، الذي لا نجاة لنا من دونه.
يكفي ناجي العلي فخراً وشرفاً أن بقي وسيبقى فينا حياً بموهبته وبمواقفه وبحنظلته – الذي ما زال غاضباً منا ومشيحاً بوجهه عنا – ويكفينا عاراً أن قاتله ما زال لم يحاسب، وأننا – جميعاً – شاركنا بقتله، قتلاً أو صمتاً أو عجزاً أو قبولاً أو إهمالاً أو نكوصاً عن الدرب، فصرنا كالأموات. ولعل أحمد مطر – مرة أخرى – هو أفضل من عبّر عنه وعنا حين قال:
القاتل المأجور وجه أسود .. يخفي مئات الأوجه الصفراء
الكل مشترك بقتلك، إنما .. نابت يد الجاني عن الشركاء
موتى، ولا أحد هنا يرثي لنا .. قم وارثنا يا آخر الأحياء