موقع تركيا في المحاور الإقليمية ما بعد عاصفة الحزم

بعد أيام معدودة من انطلاقها، أعادت “عاصفة الحزم” تشكيل التوازنات السياسية في المنطقة وفق محورين إقليميين مستحدثين، تقود أحدها السعودية بينما تدير الآخر إيران، الأمر الذي يطرح السؤال حول موقف وموقع القوة الإقليمية الثالثة تركيا، التي استمرت لسنوات عديدة في التأكيد على سياسات النأي بالنفس عن المواجهات المباشرة والتركيز على بناء جسور التواصل مع جميع الأطراف.

 

الانفتاح على الجميع

منذ عام 2002، صاغت تركيا سياستها الخارجية وفق نظرية داود أوغلو، الذي رأى أن دور تركيا في الساحتين الإقليمية والدولية مرتبط بموقعها الجغرافي والاستراتيجي الوسطي بين القارات وعلى تقاطع مناطق العبور، ولذلك فقد اعتبرها “دولة أوروبية وآسيوية وبلقانية وقوقازية وشرق أوسطية ومتوسطية في الوقت نفسه”. كما قرر مهندس السياسة الخارجية التركية أن مشاكل الجوار والصراعات الإقليمية تعيق تقدم الدول، وهو ما شكل الأساس لنظريته الشهيرة “صفر مشاكل” مع دول الجوار.

وبناء على هذه الأسس النظرية، فقد حرصت تركيا لسنوات طويلة على سياسة الانفتاح على مختلف الأطراف وتجنب الانخراط في سياسات المحاور في الإقليم. ورغم أنها قد صُنفت في فترة معينة من قبل بعض الدوائر ضمن “محور الممانعة” لموقفها من القضية الفلسطينية، إلا أنها لم تخط سياسات القطيعة أو التنافر مع أي من الدول العربية، حتى لحظة الربيع العربي التي وضعتها في تناقض مع إيران، ثم الانقلاب العسكري في مصر الذي شكل مفترق طرق مع عدد من الدول على رأسها المملكة العربية السعودية.

 

السياسة في خدمة الاقتصاد

تتميز السياسة التركية ببراغماتية شديدة، أدت في محطات عدة إلى “فك الارتباط” بين السياسة والاقتصاد، بل طوعت أحياناً الأولى في خدمة الثانية. فقد نمت العلاقات الثنائية مع سوريا ما قبل الثورة رغم الخلاف الحدودي، كما استمرت العلاقات التجارية مع “إسرائيل” رغم القطيعة الدبلوماسية، ولم تكن إيران – بعد الخلاف حول سوريا – لتشذ عن هذه القاعدة.

فقد حرصت أنقرة على لغة سياسية هادئة تجاه طهران رغم التناقض – بل التصادم – في وجهتي النظر إزاء سوريا والعراق تحديداً. ولا يغيب طبعاً على الساسة الأتراك أن العلاقات الدولية والإقليمية تقوم على التوازنات، وأن أي تمدد لنفوذ دولة ما يعني بالضرورة تقلص نفوذ دولة أخرى وتضرر مصالحها، وبذلك بقيت العلاقات الثنائية مع طهران تتردد بين نقطتي التنافس والتعاون لعدة أسباب، من أهمها:

أولاً، العلاقات الاقتصادية، حيث تعتبر إيران شريان الطاقة الذي يغذي تركيا، إذ تستورد الثانية من الأولى %28 من نفطها، و %19 من غازها الطبيعي، و %20 من كهربائها، وهو ما يشير إليه عجز الميزان التجاري بين البلدين (4 مليارات لتركيا في مقابل 10 مليارات لإيران)، بينما لا يجب إغفال مغريات رفع العقوبات الوشيك عن إيران في حال استمر الاتفاق النووي في مسيرته إلى النهاية.

ثانياً، اعتماد القوة الناعمة وسياسة تجنب الصدامات كمبدأ، إذ بنت تركيا نهضتها الحالية على عاملي الاستقرار والانفتاح الاقتصادي، وترى أن أي صراع إقليمي يمكن أن يقوض هذه تجربتها ويعيدها عشرات السنين إلى الوراء، سيما إذا ما بُني على أسس مذهبية أو إثنية.

ثالثاً، الافتقار لعناصر التأثير، وهو ما أضر تركيا حين تحركت الرمال في المنطقة وتغيرت حالها من “صفر مشاكل” إلى “صفر هدوء”، الأمر الذي جعلها شبه عاجزة أمام القوة الإيرانية الخشنة وأذرعها الممتدة في عدة دول محيطة بها.

رابعاً، الثغرات الداخلية، وخاصة قضايا الأقليات التي تفتح المجال للتدخلات والضغوط الخارجية، مثل القضية الكردية ومشكلة العلويين. حيث تتهم أنقرة طهران بالتأثير على قيادات حزب العمال الكردستاني في العراق (جبال قنديل) المعترضين على عملية التسوية، وعلى قسم من علويي تركيا من ذوي الأصول العربية.

 

عاصفة الحزم ورياح التغيير

بيد أن عملية “عاصفة الحزم” تبدو وكأنها قد عصفت بكثير من هذه الأسس، فلا بقي الجفاء مع الرياض ولا استمر الصبر على طهران. حيث يبدو أن ثلاثة أشهر من حكم الملك سلمان كانت كافية لتغيير الكثير من معادلات العلاقة بين البلدين، فما بين زيارة اردوغان للسعودية لتقديم واجب العزاء وزيارة ولي ولي العهد السعودي لأنقرة قبل أيام عدة مؤشرات وقرائن على إرهاصات بدء علاقة جديدة بينهما. ثمة مصالح سياسية – اقتصادية مشتركة بين البلدين، وهواجس استراتيجية – أمنية مشتركة أيضاً، تتلاقى معظم خيوطها في العاصمة الإيرانية.

لذلك، فقد تغيرت لغة الخطاب التركي إزاء إيران 180 درجة، فزال التحفظ التركي عبر تأييد واضح للعملية العسكرية وعرض تقديم الدعم اللوجستي لها، وتحدث رئيس البرلمان التركي لأول مرة عن “التمدد الشيعي”، بينما اعتبر اردوغان إيران تهديداً للأمن والسلم في المنطقة وإزعاجاً لتركيا والسعودية ودول الخليج، ودعاها “لسحب قواتها من اليمن وسوريا والعراق”.

ولئن بدا الموقف التركي الجديد مدفوعاً باستياء واضح من التغول الإيراني في المنطقة على حساب مصالحها ودورها، إلا أنه أيضاً مشفوع بمحاولة استثمار لحظة التحالف العشري الذي تأمل منه تركيا لعب دور الموازن الإقليمي، فتتكئ عليه في محاولتها لإعادة التوازن المفقود على محور أنقرة – طهران. وهو شعور تذكيه شهور عجاف في العلاقة مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، ويعمق من آثاره الاتفاق النووي الوشيك بين إيران ودول (5 زائد 1)، بما يعني تهميش الدور التركي في مقابل إطلاق يد طهران في ملفات المنطقة.

ويمكن في هذا الإطار فهم دلالة الزيارة المفاجئة لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف إلى أنقرة قبل ساعات من توجه اردوغان لزيارة إيران. ولئن كانت الزيارة الثانية مجدولة مسبقاً لعقد الاجتماع الثاني للمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، إلا أنها أصبحت في قلب “العاصفة” بعد المناورة السعودية.

ربما كان هدف الزيارة مد اليد مرة أخرى نحو أنقرة بعد أن عانت من العزلة وقدمت في أكثر من مناسبة إشارات على رغبتها في إعادة الدفء للعلاقات، وربما تضمن الحوار بُعداً اقتصادياً لمحاولة احتواء الضغط الإيراني على تركيا في الملفات والاتفاقات الاقتصادية، لكنها بكل تأكيد لم تخل من رسالة حُمِّلها اردوغان إلى إيران، نيابة عن السعودية/التحالف أو حتى باسم السعودية وتركيا معاً.

بهذا المعنى، يمكن إدراك مغزى التحركات الدبلوماسية بين الثلاثي السعودي التركي الباكستاني الذي يعني إحكام الحصار على إيران، وفهم التصريحات التركية الحادة على أنها استثمار للتحالف العشري وضغط على الجارة اللدود، لتجهيز أرضية للحوار والتفاوض ليس فقط على الملف اليمني بل ربما على ملفات المنطقة كحزمة واحدة في مقدمتها سوريا. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية التركي حين أعلن عن استعداد بلاده للعب دور في اليمن عبر التوسط في المفاوضات، كما عبرت عنه دعوات اردوغان من قلب طهران للحوار بين دول الإقليم كسبيل لوقف نزف الدماء في المنطقة.

في الخلاصة، تبدو أنقرة وقد نفضت عن سياستها الخارجية غبار التقوقع الذي اعتراها منذ تراجع موجة الربيع العربي، وعادت لسياسة الانخراط النشط في ملفات الإقليم، في محاولة للعودة إلى أفضل الأدوار التي لعبتها وأتقنتها سابقاً، وهو دور الوسيط الذي تملك عناصره بامتياز. فهي التي “تتوسط” السعودية وإيران جغرافياً، وتحافظ على علاقات مستقرة مع إيران رغم الخلافات، بينما تنسج من جديد علاقات التعاون مع السعودية ومن خلفها دول الخليج، بدعم من حليفها القديم – الجديد قطر.

ولئن بدت السعودية حريصة على إيصال رسالة إلى إيران مفادها أن تركيا جزء من “عاصفة الحزم” ضمنياً، عبر استشارتها وإبلاغها بالعملية مسبقاً وعبر موقفها المؤيد لها، فإن أنقرة لم تقطع شعرة معاوية مع طهران، فاكتفت بموقف لفظي داعم لعملية عسكرية تدور بعيداً عن أراضيها، فيما حرصت على إتمام الزيارة رغم التوتر الذي أدت إليه تصريحات اردوغان، وهي رسالة أخرى لم تهملها طهران.

هنا يبدو تأييد تركيا لعاصفة الحزم مُرضياً للتحالف العشري وللقيادة السعودية، بينما يمكن اعتبار عدم مشاركتها الفعلية كافياً بالنسبة لإيران في المرحلة الحالية، ويظهر أن الأخيرة قد تجاوبت مع المبادرة التركية، إذ تبدو حريصة بنفس الدرجة مع جارتيها الإقليميتين على تجنب حرب إقليمية واسعة ومضرة بمصالح الجميع، ولذلك كان التأكيد على ضرورة الحوار لحل مشاكل المنطقة. وهكذا ربما يمكن القول إن تركيا تحاول استثمار المفاجأة السعودية بتشكيل التحالف العشري لوقف التمدد الإيراني في الإقليم على حسابها، فغمزت بإحدى عينيها نحو العملية في اليمن، بينما عينها الأخرى على الملف الأكثر حساسية بالنسبة لها، أي سوريا.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

القوائم الانتخابية للأحزاب التركية .. لقطات ودلالات

المقالة التالية

الشعب الجمهوري وتحديات الانتخابات القادمة

المنشورات ذات الصلة