ملامح من النظام الرئاسي في تركيا
عربي بوست
أقرت تركيا التحول للنظام الرئاسي في استفتاء نيسان/أبريل 2017، وبدأت سريانه رسمياً بعد الانتخابات الأخيرة، بيد أن الكثير من تفاصيله وملامحه ما زالت في طور التشكل، إذ تبدو تركيا في الخطوة الأولى ضمن مشوار الألف ميل.
فالخطوط العامة للنظام الرئاسي معروفة ومحددة في المواد الـ 18 التي استفتي الشعب عليها العام الفائت، لكنها لا تعدو أن تكون الجزء الظاهر من قمة جبل الجليد بينما يبقى الجزء الأكبر منه قيد الاكتشاف أو بتعبير أدق قيد الإنشاء، على صعيد المؤسسات وصلاحياتها ومساحات عملها ومنظومة العلاقات بينها…الخ.
وبعد أيام من أداء اردوغان اليمين كأول رئيس للبلاد في ظل النظام الرئاسي، بدأت تتضح بعض ملامح النظام الجديد، والتي يمكن اختصارها سريعاً بما يلي:
أولاً، فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية، أعلن اردوغان تشكيلة حكومته التي شملت نائباً للرئيس (قد يضاف له نواب آخرون لاحقاً) و16 وزيراً أغلبهم من القطاع الخاص. إذ تبدو فلسفة تشكيلها في أن تختص بالعمل التنفيذي المباشر وأن تعنى بجودة الأداء وسرعته، بينما تترك التخطيط ورسم السياسات للرئيس ومؤسسة الرئاسة.
وضمن مؤسسة الرئاسة، ثمة “مكاتب” و”لجان” ومؤسسات أخرى أعلن اردوغان عن رؤيته حولها قبيل الانتخابات، يبدو أنها ستكون أدواته الرئيسة في رسم السياسات لمختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية وغيرها. وفي ظل توقع إعلانه عن هذه المكاتب واللجان ومن سيرأسها خلال أيام، ستتضح مع الوقت صلاحيات كل منها ومنظومة العلاقات بين المكاتب واللجان والوزارات والرئاسة بشكل أوضح، وهو أمر يبدو أنه سيحتاج لبعض الوقت ليتبلور.
ثانياً، فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، انتخب البرلمان رئيس الوزراء السابق (والأخير) بن علي يلدرم رئيساً كما كان متوقعاً، وسيكون أمام المجلس جدول أعمال حافل متعلق باختيار نواب الرئيس ورؤساء اللجان المختلفة وأعضائها، فضلاً عن تعديل نظامه الأساسي بشكل يتوافق مع النظام الرئاسي، وهو الملف الأهم بعد عودته من عطلته في الخريف.
الأهم، هو ما يتعلق بمنظومة التحالفات داخل البرلمان، حيث استمر حتى اللحظة التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية، حيث فضّل الأخير عدم ترشيح نائب منه لرئاسة البرلمان ودعم مرشح الأول، الذي كان فوزه محتماً على أي حال. في المقابل اهتز تحالف الأمة المعارض بل لعله انهار تماماً، حيث أعلن كل من حزبي السعادة والجيد أنه كان مقصوراً على الانتخابات ولا يشمل ما بعدها، وهي إشارات فهمت أنها مواربة لباب التعاون مستقبلاً مع العدالة والتنمية. ولعل من آثار ذلك، حرص كل من الحزبين على ترشيح نائب منهما لرئاسة المجلس رغم غياب أي فرص لهما في الفوز، وهي إشارة – في زاوية منها – على الاستقلالية والفردانية والبعد عن التحالف السابق.
ثالثاً، فيما يتعلق بالاقتصاد، لم يرجّح اردوغان الشخصيات التي قادت الملف الاقتصادي مؤخراً وتثق فيها المؤسسات المالية الدولية – خصوصاً محمد شيمشك – الذي تبدت معه خلافات واضحة حول كيفية إدارة الاقتصاد، مفضلاً شخصاً يثق به ويتفق معه – فيما يبدو – في الرؤية الاقتصادية وهو صهره ووزير الطاقة السابق براءة ألبيراق.
فإذا ما أضفنا التعديلات التي شملت صلاحيات الرئيس في تعيين رئيس مصرف المركزي – الذي يختلف أيضاً مع اردوغان – وتعيين مساعديه دون استشارة الأخير، فإننا نلحظ رغبة واضحة لدى اردوغان في إنفاذ رؤيته المتعلقة بالاقتصاد ومعالجة مشاكله وخصوصاً ما يتعلق بالتضخم وسعر الفائدة وقيمة الليرة أمام العملات الأجنبية.
رابعاً، فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، اجترح اردوغان سابقة في تاريخ الجيش التركي حين عين رئيس الأركان السابق خلوصي أكار وزيراً للدفاع، فكان الأخير أول رئيس أركان في تاريخ الجمهوري التركية يستقيل من منصبه من أجل حقيبة وزارية تحولت مع العدالة والتنمية إلى منصب “مدني” خالص.
يضاف ذلك إلى صلاحيات الرئيس، وفق النظام الرئاسي المستجد، في تعيين رئيس الأركان والتقرير في حركة الترقيات داخل المؤسسة العسكرية خصوصاً في الرتب المتقدمة. يعني ذلك نفوذاً أكبر للقيادة السياسية داخل المؤسسة العسكرية، وهي صورة معكوسة تماماً عن العلاقات المدنية – العسكرية ما قبل العدالة والتنمية.
في الخلاصة، يبدو واضحاً أن اردوغان حريص كل الحرص على استنفاذ كل الفرص والصلاحيات الممكنة له وفق النظام الرئاسي للاستفادة من ميزاته المعروفة عنه، مثل إنفاذ الرئيس لرؤيته على باقي مؤسسات الدولة وسرعة اتخاذ القرار وتنفيذه ووحدانية رأس السلطة التنفيذية ومرجعية القرار وغيرها. لكن لذلك أيضاً سلبياته ومحاذيره، على الأقل وفق المعطيات الحالية، حيث يتعرض اردوغان لانتقادات واضحة لاختيار صهره وزيراً للخزينة والمالية في ظل تراجع سعر الليرة مقابل العملات الأجنبية حتى اللحظة، فيما يبدو من الصعوبة بمكان استجلاء موقف المؤسسة العسكرية من التحولات الأخيرة وردة فعلها عليها، فضلاً عن الصعوبات والتحديات المتوقعة خلال إنشاء مؤسسات النظام الجديد وإرساء منظومة الصلاحيات والعلاقات فيما بينها.
في كل الأحوال، فالنظام الرئاسي تجربة جديدة، سيكون فيها الكثير من المد والجزر والتجارب والتعديلات، وهو أمر يدركه كل متابع، ولذلك فالعبرة بالنتائج على المدى البعيد وليس فقط الفترة الانتقالية الحالية. ولعل اردوغان أكثر المدركين لمدى المغامرة في النظام الرئاسي وتطبيقاته، ولذلك فقد صرح ما معناه أنه لم يعد له ولا لأي رئيس قادم بعده أي عذر في الإنجاز بعد كل هذه الصلاحيات، ولعل ذلك أيضاً سبب حرصه على هذه الخيارات.