أظهرت المواجهة الحالية بين دولة الكيان والمقاومة الفلسطينية اختلافات جوهرية عن الحربين السابقتين في 2008 و2012، من حيث الأسباب، والتطورات، والأداء الإعلامي والميداني، بما ينبئ باختلاف المخارج والنتائج.
كيف بدأت الحرب
ينبغي التذكير هنا أن حرب الفرقان عام 2008 بدأت بقصف صهيوني لحفل تخريج دفعة من الشرطة ارتقى على إثرها مئات الشهداء في يومها الأول، وأن حرب حجارة السجيل عام 2012 بدأت باغتيال الصهاينة لأحمد الجعبري قائد كتائب القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية – حماس، وفي الحالتين امتلك العدو ورقة المفاجأة (والبلبلة عام 2008).
أما المواجهة الحالية فبدأت بأسلوب التدرج في التصعيد، من إضراب الأسرى، إلى أسر المستوطنين الثلاثة وقتلهم، إلى اندلاع المواجهات في القدس رداً على حرق وقتل الطفل أبو خضير، ثم انضمام الأراضي المحتلة عام 1948 للحراك الغاضب، فأتت موجات الفعل وردات الفعل من قبل المقاومة الفلسطينية ضمن إطار الحرص على استثمار الجو العام وعدم تبديد موجة الغضب. يمكننا ربما أن نقول إن المقاومة الفلسطينية جرت العدو إلى المواجهة جراً، وهذا ما أفقده عنصر المفاجأة، مما أحدث فارقاً كبيراً في الوقائع.
بنك الأهداف المفلس
لطالما كان لدى جيش الاحتلال قائمة بالمواقع الأمنية والعسكرية للحكومة والفصائل المختلفة يعتبرها بنك أهداف يبدأ بها بين يدي كل مواجهة، بينما شاهدناه في هذه المواجهة يركز في القصف على منازل المواطنين، مما يدل على أنه يسعى إلى زيادة عدد الشهداء (بدرجة ما) لاستثمارها في مفاوضات إطلاق النار (استشعاراً لعجزه عن الحسم عسكرياً)، ويشير إلا إفلاس بنك أهدافه بعد نجاح المنظومة الأمنية في قطاع غزة على مدى سنوات في محاربة العملاء بدرجة كبيرة.
ولذلك نرى العدو الصهيوني وقد بدأ يدور في حلقة مفرغة من القصف المتواصل بلا أهداف واضحة، في تخبط شديد، ويأس كبير من اقتناص أي نصر معنوي، وهو ما قد يجعله يعول على سلاح الاغتيالات كنصر مزعوم يسوقه أمام جمهوره.
كما رأينا العدو الصهيوني زاهداً في إعلان قائمة أهدافه من هذه الحرب كما في كل مرة، خوفاً من الفشل المتكرر في تحقيقها، حتى نزل سقفه من “القضاء” على منظومة الصواريخ لدى حماس والفصائل الأخرى إلى “وقف” إطلاقها.
مفاجآت المقاومة
لكن المفاجأة الكبرى كانت في استلام المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام زمام المبادرة منذ اللحظة الأولى، متمثلاً فيما يلي:
أولاً، قصف مختلف المغتصبات بمئات الصواريخ.
ثانياً، قصف القدس وتل الربيع مرة أخرى.
ثالثاً، دخول مدينة حيفا (التي تبعد 110 كم عن القطاع) في نطاق الصواريخ.
رابعاً، قصف منطقة ديمونة التي تحوي المفاعل النووي (منطقة غاية في الأهمية الاستيراتييجية) عدة مرات.
خامساً، وقوع معظم أراضي فلسطين المحتلة تحت مرمى الصواريخ، ونحن ما زلنا في الأيام الأولى للمواجهة.
سادساً، حالة الرعب التي حدثت لدى الصهاينة، ولزوم مئات الآلاف منهم الملاجئ، بعد عجز القبة الصاروخية عن اعتراض معظم صواريخ المقاومة.
سابعاً، عمليات اقتحام قاعدة “زيكيم” وساحل عسقلان بقوات الكوماندوس البحري القسامية، لأكثر من مرة، واعتراف الصهاينة بحدوث اشتباكات ممتدة على فترة زمنية طويلة ووقوع قتلى من طرفهم.
ثامناً، الانضباط العالي والثقة بالنفس التي تبديها مختلف الفصائل الفلسطينية في المواجهة وتخبط الاحتلال.
الأداء الإعلامي
رافق هذا الأداء الميداني تميز في الرسائل الإعلامية من الطرفين السياسي والعسكري للمقاومة. فقد ظهر خالد مشعل في لقاء على الجزيرة وقت أسر المستوطنين ثم ظهر في مؤتمر صحافي أمس، ظهر فيه واثق النفس قوي الخطاب واضح الرؤية محدد الأهداف، فخاطب المقاومة والشعب الفلسطيني والعدو الصهيوني والمحيط العربي والعالم برسائل واضحة ولغة قوية، ووضع تحليله وشروطه كقائد يتكلم باسم الشعب وليس فقط المقاومة، الأمر الذي اكسبه احترام الجميع.
ولذلك رأيناه يحمل المسؤولية للاحتلال المعتدي، ولا ينقص شعبه حق الدفاع عن النفس، وظهر آسفاً لخسائر شعبه لكن راضياً بقدر الله وثمن التضحية، منادياً في العرب والمسلمين غير مستجد لهم. بينما كان أكثر ما برع به الرسائل الموجهة للداخل الصهيوني التي حملت معنى الاغتيال السياسي لنتنياهو وفق عدد من المحللين.
من ناحيته، كان الذراع العسكري يرسل رسائله الإعلامية بمهنية عالية، من تصوير العمليات إلى التسجيلات ورسائل الهاتف باللغة العبرية ضمن الحرب النفسية التي يشنها على بيت عدوه الداخلي، إلى مواد التدريب التي تقدم رسائل الاستعداد التام، وكل ذلك ضمن رؤية واضحة المعالم وتقنيات احترافية تضمن بلوغ الهدف. ولا يمكن هنا إغفال أهمية التسمية التي أطلقتها كتائب القسام على الحرب “العصف المأكول” ودلالاتها، خصوصاً لجهة تكاملها منع تسمية الحرب الماضية “حجارة السجيل” من ناحية المفردات القرآنية والعلاقة العضوية من باب السبب والنتيجة.
تغيرات الإقليم
الفارق الأبرز بين هذه المواجهة وسابقتها هو تغير النظام في مصر، فقد افتقد الفلسطينيون ظهيرهم مرسي الذي – وإن لم يكن متحكماً في مؤسسات دولته – أظهر موقفاً صلباً في الخطاب والفعل، فكان أن عبر عن تضامنه كشخص وكرئيس وكدولة مع الفلسطينيين (قولته الشهيرة: يا أهل غزة أنتم منا ونحن منكم، ولن نتخلى عنكم)، وأرسل رئيس وزرائه منذ بداية العدوان لكسر الحصار وإعلان التضامن، وضغط لخروج اتفاقية وقف إطلاق النار أقرب إلى شروط المقاومة، التي عقدت مؤتمرها الصحافي في قلب القاهرة، وأعلنت من هناك أنها لن تتخلى عن التسلح ومقاومة الاحتلال.
أما اليوم، فيبدو القطاع محاصراً جغرافياً وسياسياً، بعد إعلان حركة حماس تحديداً منظمة إرهابية في مصر، وبعد الحرب التي يشنها النظام في مصر بعد الانقلاب على الأنفاق (شريان حياة القطاع وممر تسليحه)، فكان أن ساد صمت عميق مصر ومعظم الدول العربية منذ بداية العدوان على القطاع رغم عشرات الضحايا واستهداف المنازل.
كسرَ هذا الصمتَ أخيراً بيانٌ من الخارجية المصرية نادى بوقف “العنف المتبادل”، في تبن للخطاب والمصطلحات الصهيونية، وفي توقيت اعتبره الكثيرون يعبر عن أزمة دولة الكيان والبحث عن مخرج يحفظ ماء وجهها من خلال اتفاق يرعاه النظام في مصر.
لكن خطاب مشعل لم يحمل انكساراً للنظام المصري الجديد ولا طلباً للعون، بل كانت الدعوة عامة لجميع القادة العرب أن يقوموا بمسؤولياتهم، وظهر مشعل أكثر ثقة بالمقاومة واعتماداً على قدراتها من تعويله على أي تدخل عربي لصالح الفلسطينيين.
أكثر من ذلك، كان النداء الذي وجهه زعيم حماس أقرب إلى التقريع منه إلى طلب العون حين طالب القادة أن يقدم كل منهم وفق “نخوته ورجولته وإنسانيته”، بينما قال لجنود المقاومة أنهم سيدافعوا عن شعبهم “ولن ينتظروا أحداً”، ولذلك فمن غير المتوقع أن تدخل مصر على خط الوساطة سريعاً جداً، بل يبدو أن ظروف هذه الوساطة ستنضج بهدوء وفق تطورات الوضع الميداني.
مرحلة جديدة
من البديهي والمتكرر أن كل مواجهة بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية تنتهي باتفاق لوقف إطلاق النار بشروط معينة، وفق توازنات القوى ووقائع الميدان، ولا ينتظر أن تكون الأخيرة استثناءً.
لكن المتغير هنا أن أداء الفلسطينيين أفضل وثقتهم بأنفسهم أعلى، وبدوا – على لسان مشعل وممثلي الفصائل الأخرى – غير لاهثين وراء التهدئة ولا مستجدين لها. بل إن “أبو الوليد” رفع من سقف المطالب والشروط الفلسطينية حين ضمّنها – إلى جانب وقف العدوان والإفراج عن المعتقلين – شرط امتناع نتنياهو عن محاولات إفشال المصالحة الفلسطينية.
اليوم، تبدو حكومة الاحتلال في مأزق وسط مفاجآت المقاومة والفشل في تحقيق أي انتصار ولو جزئي وربما نشهد سقوطاً سريعاً لحكومة نتنياهو، بينما تبدو حماس ومن ورائها فصائل المقاومة الفلسطينية قادرة على إحداث الفارق وتغيير موازين القوى، وتأسيس حالة جديدة من توازن الردع والرعب مع عدوها.
وفي ظل الالتفاف الشعبي الكبير خلف المقاومة (خصوصاً بعد مرونة حماس اللافتة في ملف المصالحة والتخلي عن الحكومة)، وحالة الانسداد السياسي في ملف المفاوضات التي لا أمل كبيراً باستئنافها قريباً، والسخط الشديد إزاء مواقف السلطة ورئيسها تحديداً في الأزمة الأخيرة، وتحرك الشارع الفلسطيني في مختلف المناطق وخاصة الضفة، يرى الكثير من المحللين أن معادلة هذه المواجهة ستؤول إلى نقاط جديدة تكسبها المقاومة الفلسطينية التي أثبتت أنها عصية على الانكسار وقادرة على الفعل وتحقيق الإنجازات.
هكذا، نستطيع أن نقول دون مبالغة أننا أمام مرحلة جديدة ومعادلة مختلفة في تاريخ الصراع، يحلو للمقاومين أن يسموها “اليوم نغزوهم ولا يغزوننا”، وربما نكون على موعد مع الكثير من المفاجآت في هذه المواجهة التي ما زالت في بداياتها.