منذ أن بدأت ثورات ما سمي بالربيع العربي، اتخذت تركيا موقفاً مؤيداً لها باعتبارها تعبيراً عن رغبة وحرية الشعوب العربية ووقفت ضد الأنظمة التي تحرك فيها الشارع، مما نقلها من موقع الدولة النموذج المجمَع على تجربتها ونهضتها، ليضعها في قلب حالة الاستقطاب في المنطقة، وهو ما جعل كل سياساتها تقريباً تصنف ضمن لعبة المحاور.
وفق هذه الرؤية بات الدعم التركي – خاصة السياسي والإعلامي – للقضية الفلسطينية، والسابق بالمناسبة على الربيع العربي، محل جدل وإنكار وأخذ ورد وفق تفسيرات مختلفة فرضتها حالة الاستقطاب الحاد. لكن مشروعاً جديداً تقوم عليه تركيا لدعم القضية الفلسطينية قد يستطيع تخطي هذه الحالة، ليحظى بتقدير جميع الأطراف. حيث تقوم “رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات القريبة” (YTB) التابعة لرئاسة الوزراء التركية بالتعاون مع “المنتدى التركي الفلسطيني” على مشروع رائد، يمكنه إلقاء الكثير من الضوء على جذور القضية الفلسطينية.
تقوم فكرة المشروع على مراجعة ملايين الوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني وانتقاء واستخلاص كل ما له علاقة بفلسطين والقضية الفلسطينية من بينها، لتصنيفها وتبويبها وأرشفتها، ثم ترجمتها إلى عدة لغات منها التركية والعربية والإنكليزية والفرنسية، وإتاحة الاستفادة منها للباحثين والأكاديميين من مختلف دول العالم.
ولا ينحصر المشروع بوثائق الأرشيف الرسمي للدولة العثمانية، بل مختلف أرشيفات الدولة التركية أيضاً، ليقدم معلومات تاريخية وقضائية رسمية وموثقة، عن وثائق الأراضي، والأوقاف، والأملاك الخاصة، والنزاعات القضائية، والمواريث وغيرها من وثائق القضاء، فضلاً عن الفرمانات السلطانية ووثائق “الطابو” العقارية، وغيرها من الوثائق التاريخية.
وتهدف المؤسسة من خلال هذا المشروع إلى المساهمة بشكل رسمي وموثق في فهم جذور القضية الفلسطينية وحلها إن أمكن، بحيث يمكن الاستفادة من هذه الوثائق في إثبات ملكيات الأراضي والبيوت والعقارات وغيرها من الأماكن التي هُجِّر منها الفلسطينيون قسراً ووضعت دولة الاحتلال يدها عليها.
ويأمل القائمون على المشروع أن تستثمر هذه الوثائق لرفع قضايا ضد دولة “إسرائيل” أمام المحاكم الدولية لإثبات الحق الفلسطيني، حيث سبق وأن قـُبـِلت وثائق الأرشيف العثماني كأدلة رسمية واعتمدت في حل بعض القضايا العالقة.
يقول رئيس “رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات القريبة” د. قدرت بلبل: “سيتم توثيق الأراضي الفلسطينية اعتماداً على الوثائق العثمانية، ولن تستطيع إسرائيل أن تقول عن الملكيات الخاصة أو الأراضي الحكومية أنها أراض غير فلسطينية”.
ولن تكتفي المؤسسة بهذا المشروع بل ستعمد إلى تقديم الدعم المالي والمنح الدراسية لرسالات الماجستير والدكتوراة الخاصة بالقضية الفلسطينية والمعتمدة على هذه الوثائق، مما يعطي بُعداً أكاديمياً ومعرفياً للمشروع، ويضمن الاستفادة منه على الوجه الأمثل.
يتكون المشروع من عدة مراحل، بدءاً باستخراج الوثائق المتعلقة بفلسطين – في كل المجالات – في الأرشيف العثماني وباقي الأرشيفات التركية، مروراً بالتصنيف والتبويب، ثم الترجمة والنشر، ثم التعريف والتوزيع للرأي العام التركي والعالمي، وخاصة الباحثين والأكاديميين. وقد خطط للمشروع أن يتم على مدى ثلاثة أعوام، مضى منها عام كامل وبقي اثنان، باعتبار أن الأرشيف العثماني يضم أكثر من عشرة ملايين وثيقة، وهو ما يصعّب المهمة ولكنه يعد أيضاً بالكثير على مستوى النتائج.
من ناحيته يسعى الشريك الآخر في المشروع “المنتدى التركي الفلسطيني” إلى تأسيس مكتبة خاصة وثرية تجمع كل المصادر التركية والأجنبية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وتعليقاً على المشروعين، يقول رئيس المنتدى إيرول يارار: “كلنا في تركيا متعاطفون مع أشقائنا الفلسطينيين، وحان الوقت لترجمة ذلك في عمل مؤسسي راسخ ومستدام ومفيد”. ويضيف: “يمكن للفلسطينيين رفع مئات بل آلاف القضايا على “إسرائيل” وطلب التعويضات المالية التي لن تستطيع الأخيرة الإيفاء بها وستصبح عبئاً مادياً كبيراً عليها، فضلاً عن أن أملاك الأوقاف مثلاً لا يمكن وضع اليد عليها – كما فعلت هي – تحت أي ظروف، وفق كل القوانين المحلية والدولية المطبقة في العالم”.
أخيراً، وبعيداً عن كلمات الشكر والإطناب، وأبعد من مجرد المقارنة وجلد الذات، أرجو أن يكون هذا المقال المقتضب قد ألقى الضوء على مشروع عملاق بحق، تحتاج دولنا ومؤسساتنا إلى الاهتمام به عن كثب والتواصل مع القائمين عليه، وتوجيه طلاب الدراسات العليا ليستفيدوا منه ومن المنح المقدمة عبره، لتخرج لنا عشرات بل مئات رسائل الماجستير والدكتوراة عن القضية الفلسطينية، مدعّمة بالوثائق والمستندات، تمهيداً لاستثمارها حقوقياً وسياسياً وإعلامياً في العالم أجمع. ربما نحتاج نحن أيضاً أن نعبر عن انتمائنا بشيء أعمق وأكثر فاعلية من مجرد العواطف النبيلة.