مشروع قناة إسطنبول وتأثيره على اتفاقية مونترو

مشروع قناة إسطنبول وتأثيره على اتفاقية مونترو

الجزيرة نت

أثار بيان وقعه 104 أميرالات متقاعدين من القوات البحرية التركية جدلاً كبيراً على مدى الأيام الماضية. فقد وجه الجنرالات المتقاعدون انتقادات حادة للحكومة في البيان الذي نشر قريباً من منتصف الليل، ما عدَّته الأخيرة محاولة للعودة إلى زمن الوصاية العسكرية على القيادات السياسية وضغطاً غير مقبول وإيحاءاتٍ انقلابية.

على أن الفكرة الرئيسة التي ركز عليها البيان هي رفض مشروع قناة إسطنبول من باب أنه قد يؤدي لانتهاك اتفاقية مونترو للمضائق أو يدفع أنقرة للانسحاب منها، مع ما لذلك من نتائج سلبية متوقعة.

 

قناة إسطنبول

في 2011، أعلن رئيس الوزراء آنذاك أردوغان عن عدة مشاريع مستقبلية ضخمة أسماها “المشاريع المجنونة”، مثل الجسر الثالث والمطار الثالث ونفق أوراسيا، إضافة لمشروع قناة إسطنبول الذي قال عنه إنه “حلمه الأكبر”.

المشروع عبارة عن قناة مائية موازية لمضيق البوسفور في الشق الأوروبي من إسطنبول تربط بين بحري مرمرة والأسود، بطول حوالي 48 كلم وعرض يصل إلى 150 متراً وبعمق 25 متراً.

الدافع الأساسي للمشروع، وفق الحكومة، هو إيجاد خيار بديل عن أو مكمّل لمسار المضائق التركية الحالي، إذ اختلفت أعداد وأحجام وحمولة وطبيعة السفن والناقلات التي تمر عبر البوسفور مع مرور السنين، ما أدى لعبء شديد على البوسفور من جهة وإلى حوادث بين هذه السفن أو بينها وبين مراكب نقل المسافرين داخل المدينة (التي يتقاطع مسارها مع سفن البضائع عمودياً) أو على شكل اصطدام للسفن بالرصيف.

ترى الحكومة أن المشروع، الذي تأجل إطلاقه بسبب جائحة كورونا ويتوقع أن يستمر العمل به عدة سنوات، يضمن مكاسب اقتصادية كبيرة للبلاد. فمن جهة، سيكون هناك مرافق ومشاريع إضافية على هامشه من ميناء وأرصفة ومراكز لوجستية ومساحات خضراء ومدينة عصرية، ومن جهة ثانية سيزيد من أهمية تركيا في معادلات النقل البحري إقليمياً ودولياً بما يمثل لها مكسباً جيواستراتيجياً مهماً. كما أن المشروع سيرفع عدد السفن التي تمر عبر تركيا إلى ما يقارب 150 سفينة يومياً وبأحجام أكبر، وسيكون له عائدات إيجابية كبيرة على السياحة، فضلاً عن توفير مئات آلاف فرص العمل في مرحلتي الإنشاء والتشغيل، وفق الحكومة.

مالياً، ولأنها داخل حدود تركيا وستخضع لسيادتها بالكامل، ستخضع السفن المارة بالقناة لتعرفة أعلى سعراً من الحالية، بما يتوقع أن يدِرَّ عليها وفق بعض المصادر حوالي 8 مليارات دولار سنوياً، وبحيث تستعيد تكلفة إنشائها خلال سنوات.

 

اعتراضات

منذ الإعلان عنه في 2011، تعرض مشروع القناة لانتقادات واعتراضات كثيرة، من أحزاب سياسية وبعض مؤسسات المجتمع المدني وأكاديميين وكذلك خبراء عسكريين.

أكثر الاعتراضات أتت من حزب الشعب الجمهوري وخصوصاً من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي أعد منشوراً يلخص 25 اعتراضاً تحت شعار “إما القناة وإما إسطنبول”. أهم هذه الاعتراضات أنه لا حاجة حقيقية له من باب أن عدد السفن التي تمر من المضائق وكذلك خطورتها في تراجع مؤخراً، وبالتالي أن تركيا لا تملك رفاهية صرف عشرات مليارات الدولارات عليه (ثمة تفاوت كبير في تقدير الكلفة، بدءاً من 25 مليار دولار) في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، وأن له أضراراً كثيرة متوقعة.

وتتنوع اعتراضات المعارضة التركية بين الإضرار بالمساحات الزراعية والمشجّرة، والتأثيرات السلبية على احتياطات المياه الجوفية، والارتدادات على البيئة والمناخ، وعلى تماسك التربة وبالتالي زيادة مخاطر الزلازل على إسطنبول. وهي اعتراضات تسندها المعارضة إلى تقارير أكاديميين وخبراء، لا سيما فرع إسطنبول من اتحاد غرف المهندسين المدنيين والمعماريين الأتراك (TMMOB)، الذي كان رفع دعوى أمام القضاء لإيقاف المشروع.

أما بعض الخبراء العسكريين فقد تركزت اعتراضاتهم على الخشية من حدوث ثغرة أمنية – عسكرية تقلل من إمكانية حماية إسطنبول ومنطقة مرمرة عموماً، وطرح اتفاقية مونترو للنقاش والجدل والتأثير السلبي عليها بعدِّها مكسباً تركياً خالصاً.

 

 

اتفاقية مونترو

في العشرين من تموز/يوليو 1936، وقعت تركيا مع كل من بلغاريا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا واليونان واليابان ورومانيا والاتحاد السوفياتي (السابق) اتفاقية مونترو للمضائق، كتعديل على المادة 23 من اتفاقية لوزان 1923.

تتكون الاتفاقية من خمسة فصول رئيسة متوزعة على 29 مادة إضافة لأربعة ملاحق، بحيث تناول الفصل الأول وضع السفن التجارية، والثاني السفن الحربية، والثالث الطائرات، والرابع أحكاماً عامة، والخامس أحكاماً نهائية في بعض التفاصيل منها مدة الاتفاقية (20 عاماً، باستثناء المبدأ العام المتعلق بحرية الملاحة) وكيفية فسخها أو تعديلها.

يُنظر للاتفاقية في تركيا بإيجابية شديدة، من باب أنها مكمّلة لاتفاقية لوزان وبالتالي إحدى “وثائق تأسيس الجمهورية”، ولأنها اعترفت بسيادتها الكاملة على المضائق، كما أنها أعطتها صلاحيات واسعة تشمل غلق المضائق في حالات الحرب، لكن ذلك لم يمنع أيضاً توجيه النقد لها إذ قللت من عائدها المالي على تركيا بسبب خفض التعرفة.

ينص الفصل الأول على الحرية الكاملة لمرور السفن التجارية بغض النظر عن أي تفاصيل متعلقة بها في حالات السلم (المادة 2)، وفي حالات الحرب التي لا تكون تركيا طرفاً بها (المادة 4)، وكذلك السفن التابعة للدول غير المشتركة بالحرب في حال كانت تركيا طرفاً بها (المادة 5).

وأما القسم الثاني فينظم مرور السفن الحربية في حالتي السلم والحرب، ولعل الأهم في ذلك هو تحديد مرور تلك التابعة للدول من خارج حوض البحر الأسود، بألا يتخطى وزن أي منها 15 ألف طن، ولا عددها عن 9، ولا مدة مكوثها في البحر الأسود 21 يوماً، ولا الوزن الإجمالي لجميع  السفن 45 ألف طن، مع شرط الحصول على إذن مسبق من تركيا (المادتان 14 و 18).

أما في حال كانت تركيا طرفاً في الحرب، فلها الصلاحيات الكاملة في أن تقرر ما تريد بخصوص المضائق (المادة 20)، والأمر نفسه في حال قدرت أنها تواجه خطر حرب وشيكة (المادة 21) وإن أمكن لعصبة الأمم أن تدفعها لإعادة النظر في قرارها.

 

التأثيرات المستقبلية

أعلنت أنقرة أنها ليست بصدد الانسحاب من الاتفاقية، على الأقل وفق الظروف الحالية كما جاء على لسان الرئيس التركي. وكان الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين قد صرح سابقاً بأن مشروع القناة لا يلغي مونترو، وإنما يأتي في إطارها، وأن بلاده “لن تطرح اتفاقية مونترو للنقاش”. فنياً أيضاً، من الصعب حصول ذلك، إذ أن مصطلح المضائق التركية وفق مونترو يشمل مضيقَيْ البوسفور (إسطنبول) والدردنيل (تشناق قلعة) إضافة لبحر مرمرة، بينما قناة إسطنبول تشكل مساراً بديلاً للبوسفور حصراً ولا تغير شيئاً في المضيق الآخر مثلاً.

تمنح الاتفاقية تركيا مكاسب كبيرة بخصوص المضائق كما سلف تفصيله، ولا تعاملها مثل المضائق الدولية التي تخضع لحرية الملاحة بشكل كامل، فضلاً عن مصلحة واضحة لدول حوض البحر الأسود، ولذلك، ورغم انتهاء مدة الاتفاقية، إلا أنها بقيت سارية المفعول وما زالت بنودها تطبّق عُرْفاً.

بيد أن عدم إلغاء قناة إسطنبول لاتفاقية مونترو لا يعني أنها لن  تؤثر عليها بالمطلق. ذلك أن التخوف الأساسي من معارضي المشروع أن تتسبب القناة بطرح اتفاقية مونترو للنقاش وإمكانية تعديلها دولياً، حتى ولو لم ترد تركيا ذلك، لا سيما ما يتعلق بسيادتها الكاملة عليها.

المحاججة هنا أن بعض الأطراف قد تتذرع بهذا التغيير لتطالب بتعديل الاتفاقية، وهو أمر له سوابقه في السياسة الدولية، فضلاً عن أن كون القناة داخلية بالكامل وستخضع تفاصيل تشغيلها للقوانين التركية المحلية حصراً قد يغضب بعض الأطراف.

فقد استخدِم دافع “التغيير الكبير” في الظروف سابقاً لتعديل اتفاقيات دولية، حيث جاءت مونترو كتعديل للمادة 23 من لوزان، والأخيرة بديلاً لسيفر، فضلاً عن أن الظروف اليوم تختلف كلياً عن عام 1936، فلم يعد هناك اتحاد سوفياتي مقابل وجود ثلاث دول من حلف شمال الأطلسي على ساحل البحر الأسود.

يضاف لكل ذلك أن الاتحاد السوفياتي السابق كان قد طالب فعلاً في مرحلة سابقة بتعديل مونترو، قبل أن يقتنع بأن تركيا تحافظ من خلال الاتفاقية على أمن دول حوض الأسود. في المقابل، قد تجد الولايات المتحدة الأمريكية شق القناة فرصةً لتأمين وجود لها في حوض البحر الأسود من خلال تعديل الاتفاقية، أو حتى بالالتفاف على بعض بنودها إذا لم تعتمد القناة نفس معايير مونترو، وهو أمر قد يوتّر العلاقات بين أنقرة وموسكو.

من جهة أخرى، توجّه انتقادات لمشروع قناة إسطنبول من زاوية جدواه، إذا لا تملك أنقرة إمكانية منع السفن من المرور عبر البوسفور وبالتالي إجبارها على استخدام القناة، وإلا كان ذلك عاملاً مساهماً في غضب الأطراف الأخرى وسعيها للتعديل. ما تملكه أنقرة هو تسويق المشروع الجديد وإقناع الدول باستخدامه، ما يعني أنها قد لا تستطيع رفع تعرفة استخدامه كثيراً عن التعرفة الحالية، وهو أمر سيؤثر بلا شك على عائداته المالية، أحد أهم مسوغاته من قبل الحكومة.

في الخلاصة، لا يشكل مشروع قناة إسطنبول انتهاكاً لاتفاقية مونترو للمضائق، ولا إلغاءً لها، وإن كان ثمة توجّس من طرحه إياها للنقاش وإمكانية التعديل كاحتمال، وهو أمر تقف أمامه عقبات عدة في نهاية المطاف.

بيد أن الأهم هو كيفية إدارة أنقرة للقناة، وفق أي قوانينَ وتفاصيل، لا سيما فيما يتعلق بالسفن الحربية التابعة للدول من خارج حوض البحر الأسود، وهي النقطة الأكثر حساسية في المشروع. وبالتالي فإن مدى توافق القناة في هذا التفصيل مع اتفاقية مونترو سيكون عاملاً محدداً في مدى تأثير الأولى على الثانية. بينما ستبقى الاعتراضات الفنية للمعارضة مدار جدل مع الحكومة التي يمكن لها أن تعدل بعضها ليصبح أقل ضرراً، لا سيما وأنها أعلنت عن عدة تعديلات في المشروع سابقاً بناء على التغذية الراجعة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

رسائل زيارة دبيبة لتركيا

المقالة التالية

العلاقات التركية - المصرية تدخل مرحلة جديدة

المنشورات ذات الصلة