مسيرة تركيا الأوروبية: ما الجديد؟
عربي 21
كعادته، قام الرئيس التركي بمناورة سياسية جديدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لبلاده. فبعد أن أكد مراراً، قبل أيام قليلة فقط من قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليتوانيا، على أن السويد ما زالت لم تقدم كل المطلوب منها تجاه تركيا ومكافحتها للإرهاب وفقاً للاتفاق الثلاثي الذي أبرمته الدولتان رفقة فنلندا وبرعاية الناتو في حزيران/يونيو 2022 مع انتقادات حادة لها لسماحها بحوادث حرق المصحف الشريف، عاد ووافق على تفعيل مسار عضويتها في الحلف.
فبعد قمة ثلاثية جمعته برئيس وزراء السويد والأمين العام للحلف، تضمن البيان الختامي موافقة تركيا على إحالة ملف انضمام السويد للناتو إلى البرلمان التركي مقابل النص على التزامات سويدية في المقابل من بينها مواد تتعلق بتعاونها مع تركيا في مكافحة الإرهاب وكذلك دعمها لمسار انضمام الأخيرة للاتحاد الأوروبي.
عُدَّ ذلك مناورة ناجحة من أردوغان إذ ربط بين ملف عضوية السويد في الناتو وبين حقوق بلاده وحقق لها مكتسبات ممكنة/محتملة مع أطراف أخرى، ما يعني أنه وضع السويد كأحد ملفات مفاوضاته مع الغرب عموماً. فقد تحدثت بعض المصادر عن أن موافقة أنقرة أتت بعد حصولها على وعود أو تعهدات بإتمام الولايات المتحدة صفقة F16 معها والتي تشمل بيعها مقاتلات جديدة وتطوير ما تملكه حالياً منها، وكذلك بتفعيل الاتحاد الأوروبي مسار انضمامها له وتسريعه حسبما صرح مسؤول تركي لوكالة بلومبيرغ.
فهل يعني ذلك أن مسيرة تركيا الأوروبية والمجمّدة منذ سنوات يمكن أن تُسرَّع وتفضي إلى عضويتها في الاتحاد الأوروبي أخيراً، في ظل الحاجة الأوروبية والغربية على موافقتها النهائية على عضوية السويد في الناتو؟
في المقام الأول، لا شك أن أنقرة قد حققت اختراقاً دبلوماسياً من خلال تناولها الملف السويدي ضمن حزمة ملفاتها العالقة مع الغرب عموماً، وأقصد هنا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو، فضلاً عن تحقيقها بعض المكاسب الذاتية (ما زالت في إطار المحتمل والممكن حتى اللحظة) على هامش موافقتها على إحالة الملف للبرلمان.
كما أن الاتفاق المعلن وما رَشَحَ عن تفاهمات أخرى غير معلنة دعما السردية التركية بخصوص ازدواجية المعايير الغربية في التعامل معها، إن كان فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب أو عضوية المؤسسات المشار لها.
ومن جهة ثانية، ما زالت تركيا لم تفرّط تماماً ونهائياً بأوراق الضغط التي تملكها في ملف السويد، فما زال ثمة فسحة زمنية قبل عرض الأمر على البرلمان ثم الموافقة عليه، ما يعني أن هامش المناورة التركي ما زال قائماً.
فهل يعني ذلك أن حلم أنقرة الأوروبي يمكن أن يتحقق قريباً؟
تقديرنا أن حفاظ تركيا على بعض أوراق القوة لديها في ملف السويد خصوصاً، وحاجة الغرب لها في إطار مواجهته مع روسيا عموماً، يدفعان باتجاه توقع خطوات ملموسة تجاهها في المستقبل القريب، وإن كان من غير المتوقع لذلك أن يكون سريعاً جداً.
قد تكون صفقة مقاتلات F16 مع الولايات المتحدة الخطوة الأولى بهذا الاتجاه. فقد أتت الصفقة كفكرة بديلة عن مشاركة أنقرة في مشروع F35 والذي أخرجتها منه واشنطن إثر شرائها منظومة S400 الروسية، كنوع من التعويض المعنوي وكذلك لرد المستحقات المالية لتركيا بهذا الشكل. حتى مؤخراً، كان هناك اعتراض من الكونغرس على الصفقة أو بالحد الأدنى رغبة في تمريرها بشروط من قبيل عدم استخدامها ضد اليونان وهو ما ترفضه تركيا. بيد أن التصريحات الصادرة مؤخراً عن الخارجية الأمريكية وتصريحات المسؤولين الأتراك تحيل على وعد أو تعهد من الرئيس الأمريكي بالعمل على ضمان إتمام الصفقة.
بالعودة لمسيرة تركيا الأوروبية، فليس من قبيل المبالغة القول إن عضويتها في الاتحاد الأوروبي ما زالت شبه مستحيلة ولم يطرأ – ومن الصعب أن يطرأ – عليها تغير جوهري في المدى المنظور. ذلك أنه من الناحية الفنية البحتة، يفترض أن يوافق كل أعضاء الاتحاد على فتح فصول التفاوض معها ثم قبولها – بشكل منفرد – وهو أمر مستبعد جداً إذ ما زالت تركيا ستواجه “فيتو” كل من اليونان وقبرص اليونانية على أقل تقدير وليس هناك مؤشرات على تغير هذا الموقف تحت ضغط الولايات المتحدة أو أطراف أخرى.
ولذلك، فما هو متاح في هذا الإطار مكاسب تكتيكية أو متوسطة تحت هذا السقف، وهنا يمثل أمامنا عنوانان بارزان هما إلغاء تأشيرة شينغن على المواطنين الأتراك وتطوير الاتحاد الجمركي. العنوان الأول، التأشيرة، كان ضمن اتفاق إعادة اللاجئين الذي وقعته تركيا مع الاتحاد الأوروبي في آذار/مارس 2016، لكنه لم ينفذ بسبب ما عدَّته بروكسل عدم استيفاء الشروط بالنسبة لأنقرة. لكن مرور كل هذه السنوات، وتطور العلاقات التركية – الأوروبية خلالها، وحاجة الدول الأوروبية لتركيا على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، وتعامل أنقرة بحزم في موضوع الهجرة غير النظامية مؤخراً، كلها أسباب تدفع للاعتقاد بأن تحقيق تطور في هذا الملف أمر ممكن ومنطقي ومتوقع. على أن ذلك قد لا يكون سريعاً ولا شاملاً، إذ يمكن العمل على اتفاق جزئي أو معدّل عن الاتفاق السابق في الخريف المقبل، بعد طرح الاتحاد الأمر في مؤسساته ذات الصلة.
وأما تطوير الاتحاد الجمركي فهو مصلحة مشتركة للجانبين، وقد توقع كاتب هذه السطور في عدة مقالات عن العلاقات التركية – الأوروبية أن تطوير الاتحاد الجمركي أو إبرام شراكة تجارية خاصة بين أنقرة وبروكسل هو نهاية منطقية وعملية لمسار تركيا الأوروبي بعيداً عن أوهام العضوية الكاملة من جهة وتطرف منطق القطيعة من جهة ثانية، وهو ما يبدو ممكناً في المدى المتوسط في حال توفرت الإرادة السياسية لذلك في بروكسل.
وعليه، ستشهد الأشهر القليلة المقبلة عملية تفاوضية متعددة الأطراف تضم إضافة لتركيا والسويد كلاً من الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بحيث ترتبط أي خطوة إيجابية في أحد الملفات بأخرى مثيلة في ملف آخر، والعكس بالعكس. لكن توقعنا بموافقة أنقرة في نهاية المطاف على انضمام ستوكهولم للناتو يرجّح لدينا حصولها على مكاسب معقولة/نسبية في الملفات سالفة الذكر إذ نجحت بربط هذه الملفات مع بعضها البعض.