مرحلة جديدة في تركيا بقيادة جديدة

بدأت حمى الانتخابات البرلمانية المقبلة بالانتشار في تركيا مع فتح باب الترشح المبدئي للراغبين به، وانتهاء الفترة المحددة من قبل اللجنة العليا للانتخابت لأصحاب المناصب العامة للاستقالة قبل الترشح. وفي طيات المشهد وبين أسطره وعلى هامش الكثير من الأحداث والتطورات، ثمة دلائل ودلالات لا تخفى على المراقبين.

 

مرحلة جديدة وقضايا متجددة

مر العدالة والتنمية منذ تأسيسه بعدة مراحل، كان منها مرحلة التأسيس وتحييد الخصوم وبدء العمل على الملفات الاقتصادية واليومية التي تهم المواطن التركي، ثم مرحلة التمكين والتمدد وامتلاك الحاضنة الشعبية، ثم مرحلة الإصلاحات السياسية والديمقراطية في عدة مجالات في البلاد، ثم مرحلة ترسيخ الحالة الديمقراطية في البلاد من خلال الصراع مع أنظمة الوصاية المتعددة (العسكرية والإعلامية ثم القضائية)، ويبدو اليوم بعد أكثر من 12 عاماً من الحكم أكثر حضوراً في المشهد التركي وأكثر استعداداً للمرحلة المقبلة، وأكبر الأحزاب حظاً – مرة أخرى للمرة العاشرة على التوالي – في الانتخابات المقبلة.

تبدو الانتخابات الوشيكة حساسة وذات أهمية استثنائية بالنسبة للحزب والحكومة وتركيا الدولة بالنظر إلى القضايا التي تبدو على المحك بعدها. ولئن كانت كل الاستفتاءات واستطلاعات الرأي تعطي العدالة والتنمية أغلبية قريبة من نسبته الحالية في البرلمان (قريباً من %50) بما يؤهله مجدداً لتشكيل حكومة بمفرده، إلا أن بعض هذه الملفات قد تحتاج ما هو أكبر من مجرد الأغلبية النسبية (الثلثين).

نتحدث هنا عن صياغة دستور جديد للبلاد للتخلص من الدستور الحالي المعمول به منذ عام 1982 والذي صاغه عسكر انقلاب عام 1980 ويكبل الحالة السياسية التركية بعدة قيود رغم التعديلات الكثيرة التي طرأت عليه، خصوصاً في عهد العدالة والتنمية. بيد أن فشل الأحزاب التركية الأربعة الممثلة حالياً في البرلمان في التوافق على دستور جديد خلال الفترة النيابية الحالية رحّل المشكلة إلى ما بعد الانتخابات القادمة، وهو ما يجعل الأمر ملفاً حيوياً بالنسبة لتركيا الراغبة في الانطلاق أسرع ما يمكنها على طريق رؤية عام 2023 التي وضعها الحزب الحاكم.

من ناحية أخرى سيتوجب على الحكومة التركية القادمة أن تتخذ مواقف وقرارات شجاعة وتنطوي على مخاطرات بنسب معينة في ملف عملية السلام الداخلي مع الأكراد في سعيها لإنهاء حالة التمرد المسلح من قبل حزب العمال الكردستاني وتمتين الحالة المجتمعية الداخلية، وهو ما يحتاج لنسبة مريحة في البرلمان أو على الأقل تحالفات سياسية متينة لا تبدو وفق المشهد الحالي ممكنة جداً أو موثوقاً بها كثيراً.

ولا يقل عن هذين الملفين أهمية وخطورة ملف مكافحة الكيان الموازي داخل الدولة وتفاعلات التحالف الدولي لمكافحة “الإرهاب” في المنطقة وملف تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، إضافة لحالة السيولة المنتشرة في الإقليم من سوريا إلى العراق إلى مصر واليمن وغيرها.

 

إشارات التغيير

أما على مستوى الأحزاب المتنافسة، فكما سبق ذكره، يبدو أن العدالة والتنمية سوف يتنافس مع نفسه على المركز الأول في محاولة لرفع نسبة تصويته أو على الأقل عدم تراجعها، في ظل ضعف وتمزق أحزاب المعارضة المختلفة. أما المتغير الأهم على ساحة الحزب الحاكم فهو أنها ستكون أول انتخابات برلمانية يخوضها دون قيادة زعيمه اردوغان، وهو عامل له تأثيره لا شك. إذ لا يمكن بحال التقليل من أهمية وجود اردوغان على رأس الحزب وحملاته الانتخابية السابقة بكل ما يمثله الرجل من قيادة تاريخية وزعامة كاريزمية ومهارات قيادية، لدرجة جعلت الكثيرين لا يتصورون إمكانية استمرار حزبه بنفس وتيرة النجاح من بعده.

لكن رئيس الحزب والحكومة الجديد أحمد داودأوغلو بدا – على الأقل حتى الآن – على قدر المسؤولية، فخلفيته الأكاديمية كأستاذ للعلوم السياسية ومنظـّر ومفكر، إضافة إلى عمق نظرته السياسية وخبرته الطويلة في العمل الدبلمواسي ثم الحكومي ومهاراته الإدارية المتعددة جعلته قادراً على ملء فراغ اردوغان إلى حد كبير، سيما في ظل التواصل والتناغم بين المؤسستين التنفيذيتين، الرئاسة والحكومة.

أكثر من ذلك، فقد بدا الرجل متحرراً تماماً من ضغوط ظل اردوغان المؤسس والزعيم رغم التفاهم بينهما على الخطوط العريضة والأهداف البعيدة، وقد كانت استقالة رئيس جهاز الاستخبارات التركية حاقان فيدان بهدف الترشح لعضوية البرلمان أولى إرهاصات ذلك التحرر، حيث تمت رغم اعتراض اردوغان عليها. لكن الاستقالة لم تكن حكراً على فيدان وحده، بل كان هناك موجة كبيرة من الاستقالات شملت العشرات من المديرين العامين في الوزارات المختلفة لنفس الهدف، جزء كبير منها بإيماء من داود أوغلو. الأهم في الأمر كان استقالة كبار مستشاري الأخير الخمسة إضافة إلى طبيبه الخاص، ما يعني أنه يعد “فريقه الخاص” للبرلمان ثم الحكومة، ومن باب أولى الحزب.

يساعد داودأوغلو على ذلك دخول الحزب الانتخابات دون قياداته المؤسِّسة الكبيرة، مثل اردوغان الذي انتقل إلى قصر الرئاسة، والرئيس السابق “غل” الذي يبدو أنه جمّد حالياً طموحه السياسي فيما يتعلق بالمناصب المحلية بعد أن تـُرك خارج أطر الحزب الذي شارك بتأسيسه، و”أرينتش” البرلماني المخضرم ونائب رئيس الحزب والحكومة الذي أعلن عن نيته اعتزال العمل السياسي مع الانتخابات، و”عبداللطيف شنار” الذي سبق وأن ترك صفوف الحزب منذ عام 2007 على إثر خلافات عميقة في الرؤى معه، إضافة لعدد كبير من كبار قيادات الحزب والحكومة تنطبق عليهم فقرة “المدد الثلاث” في النظام الأساسي للعدالة والتنمية والتي تحظر الترشح لأكثر من ثلاث دورات متتالية وتضطرهم للبقاء خارج البرلمان والحكومة، على رأسهم الاسم اللامع وباني نهضة تركيا الاقتصادية الوزير “علي باباجان”.

إذن، يبدو رئيس الوزراء الحالي متحرراً من ظلال “الحرس القديم” أيضاً في الحزب، ومن شخصية اردوغان الكاريزمية التي وضعت على الحزب والحكومة بصماتها الواضحة، ويبدو أنه يسعى للاستمرار في التجربة النهضوية التركية الحالية، لكن وفق رؤيته  وأسلوبه الخاص في العمل والخطاب وطرح جدول الأولويات في ملفات السياسة الداخلية والخارجية.

 

سيناريوهات المستقبل

ليس واضحاً بعد ما إذا كان الحاصل حتى الآن مجرد تمايز بين الرجل وأسلافه، أم هو أعمق من ذلك باتجاه الاختلاف والخلاف والتنازع على النفوذ والسيطرة. لكن، ووفق المعطيات الحالية وحقائق الواقع، نستطيع القول إن العدالة والتنمية الآن أمام فرصة تاريخية ذهبية لترسيخ مبدأ انتقال السلطة بشكل سلس داخل دوائره، من جيل التأسيس إلى جيل الاستمرارية. فالملفات المطروحة على جدول أعمال الحكومة والدولة في قابل السنوات تختلف تمام الاختلاف عن ملفات النشأة وخطوات البداية وجهود الاستقرار.

إن تركيا اليوم وهي تضع قدمها على سلم رؤية وأهداف عام 2023 – الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية – تحتاج إلى فلسفة جديدة ورؤية متجددة وقيادة غير مقلدة. ذلك أن الجمود والتقليد هو مقبرة النجاح والعقبة الأكبر في مسيرة الحزب وتركيا.

ولئن صدقت مقولات علوم الإدارة بتراجع القدرة على الإبداع بعد 10 سنوات في نفس المنصب، أو انفضاض %68 من الشراكات المؤسسية بعد الجيل المؤسِّس، وإذا ما وضعنا نصب أعيننا تجربة حزبين على الأقل في تركيا اختفيا عن ساحة الفعل والتأثير بعد تغيير قيادتيهما، فيمكننا بسهولة أن نقول ودون مبالغة إن أكبر خطر على مسيرة العدالة والتنمية هو العدالة والتنمية نفسه، بمعنى كيفية حسمه لعملية انتقال السلطة والزعامة وتسليم دفة القيادة لأجيال جديدة بعد كل إنجازات جيل التأسيس.

إن حزب العدالة والتنمية ومن خلفه الحكومة وتركيا، تبدو جميعها على مشارف مرحلة جديدة مختلفة تماماً وتحت قيادة شابة ومتجددة، وسيكون علينا مع مرور الوقت وتطور الأحداث أن نحكم على التجربة التركية الحديثة تحت هذه القيادة الجديدة وفق أدائها في الملفات المختلفة المطروحة على جدول أعمالها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

إشارات ودلالات في مرشحي العدالة والتنمية للانتخابات

المقالة التالية

دعوة أوجلان لإلقاء السلاح .. ما الجديد؟

المنشورات ذات الصلة