لئن كان إرضاء الناس غاية لا تدرك في الحياة اليومية، فهو في عالم السياسة لا يرجى كثيراً، ولئن كان هذا حال الأحزاب السياسية المستقرة فهو أولى في الاحزاب والتيارات التي تعاني من ظروف صعبة.
تنطبق المقولة آنفة الذكر على مواقف وتصريحات حركة حماس في فلسطين، التي تعاني من ضائقة وظروف صعبة على شتى الصعد، بينما يريد منها محبوها ومنتقدوها على السواء مواقف أقرب للمثالية (من وجهة نظرهم هم)، خاصة فيما يتعلق بالربيع العربي.
واجهت الحركة هجمة شرسة من الطرفين في بدايات الثورة السورية، إثر تجنبها اتخاذ مواقف حادة أو الاصطفاف بشكل واضح إلى جانب النظام أو الثورة، مؤكدة مبدأها الثابت في ميثاقها بعدم التدخل في شؤون الدول العربية الداخلية. لكن تطورات الثورة السورية اللاحقة واستطالة الأمد وتدخل بل وتداخل الكثير من الفواعل أدى إلى تراجع حدة النقد (والتخوين) من الطرفين، رغم أن الحركة لم تغير من موقفها أو خطابها.
واليوم، يتم تكرار نفس المشهد تقريباً، مع كل موقف أو تصريح لأي قيادي في حماس، صحيحاً كان أم مفبركاً، قيدماً كان أم جديداً، ومن الطرفين، فيعتبره أنصار السيسي/بشار تراجعاً للحركة وعودة للابن الضال إلى بيت الطاعة، ويعتبره معارضوهما نكوصاُ وخيانة للأمة وقضاياها. ولأن التجاذبات والاستقطابات هي قدرنا المحتوم، ولأن الكثير من المشتغلين بالسياسة والشأن العام تتخطفهم “غرائب” الإعلام وإشاعات مواقع التواصل الاجتماعي، ولأننا نعيش في زمن نحتاج فيه إلى توضيح الواضحات، يبدو من المناسب هنا – وفي عجالة – التذكير بالتالي:
أولاً، أن موقف حماس من عدم التدخل في شؤون الدول العربية (وغير العربية) موقف مبدئي تم اتخاذه بناء على دروس التاريخ ومعطيات السياسة، وهو غير مختص ببلد دون بلد، ومن البديهي أنه قديم متجدد وليس مستحدثاً.
ثانياً، أن الحركة تتعامل دائماً وفق مبدأ أنها حركة تحرر تحاول تجييش الجميع (دولاً وشعوباً وتيارات) خلف القضية الفلسطينية دون استعداء أحد، ولكن أيضاً دون الإخلال بالثوابت الدينية أو القومية أو الوطنية، وبعيداً عن سياسات الإملاء والتخندق والمحاور.
ثالثاً، أن موقف الحركة من “الحل السياسي” لا يعني التسليم بالأمر الواقع أو دعم أي نظام قائم، ولكنه يعني نفي ورفض الخيار العسكري أو الأمني القاضي بسفك الدماء وقتل الشعوب وتدمير البلاد، وهذا هو الموقف المنطقي والمبدئي الذي لم يتغير منذ البداية.
رابعاً، أن هذا الموقف مرهون بموقف آخر أسبق وأوضح منه، وهو التأكيد على حق الشعوب في التعبير عن رأيها وتقرير مصيرها ومن يحكمها، والعمل على امتلاك حريتها وصياغة مستقبلها.
خامساً، أن الحركة هي الحلقة الأضعف في المشهد ككل، وأنه من غير المطلوب منها إصدار مواقف عنترية أو دونكيشوتية تؤدي إلى تشديد الحصار وتضييق الخناق على الفلسطينيين وحركات المقاومة أكثر.
سادساً، أن معادن ومواقف وتواريخ حركات التحرر الوطني والأحزاب السياسية المختلفة لا يغيرها بيان هنا أو تصريح هناك أو جملة هنالك بين ليلة وضحاها. فكل تيار سياسي له نظامه الأساسي وتاريخه العملي وقادته الناطقون باسمه، وتفهم التصريحات الجزئية وفق هذه الرؤية الكلية. أما المتربصون بكل كلمة، الذين يحسبون كل جملة عليهم، فلا نظن أن منهجهم فيه من الواقعية أو الموضوعية أو الحقيقة شيء. اللهم إلا تفريغ ما في النفوس، أو اللهاث وراء أنصاف الحقائق وقوافل الإشاعات.
لقد اضطر الإخوان السوريون في السابق للجوء إلى صدام حسين ولم يكن أقل إجراماً أو معاداة للإسلاميين من حافظ الأسد، وتتعامل المعارضة السورية حالياً مع الإدارة الأمريكية وهي ليست أقل إيغالاً في دماء شعوبنا من إيران، ولجأت كل حركات التحرر عبر التاريخ إلى دول جارة أو قريبة أو حليفة لم تكن بالضرورة من نفس التيار الأيديولوجي والتيار الفكري، لكن تحالفات السياسة تبنى على المصالح والموازنة بين الفوائد والأضرار، وليس على الدين أو الأيديولوجيا.
ولذلك، آن لنا أن نهدئ من روع صرخاتنا واتهاماتنا مع كل تصريح أو خطاب، حتى ذلك الذي يجانبه الصواب والحصافة أحياناً، ففي النهاية يبقى العمل السياسي عملاً بشرياً وأكثر ما يلازم البشر من صفات هو الخطأ.