مذكرة التفاهم حول إدلب في الميزان
TRT العربية
أيام قليلة فقط فصلت بين الحديث عن عملية عسكرية واسعة وشاملة وشيكة في إدلب وبين توقيع الرئيسين بوتين واردوغان مذكرة تفاهم بخصوص المنطقة تجنبها ذلك المآل الكارثي.
أيام قليلة لكنها كانت حافلة بالتطورات والخطوات والخطوات المقابلة، أدى تظافرها إلى تأجيل العملية العسكرية على أقل تقدير، وأهمها:
أولاً، التواصل التركي الحثيث والمستمر مع روسيا وعلى عدة مستويات في مقدمتها زيارة الوفد رفيع المستوى إلى موسكو ولقاء وزيري الدفاع والخارجية ورئيس جهاز الاستخبارات الأتراك مع الرئيس الروسي.
ثانياً، قمة طهران الثلاثية التي أكدت فيها تركيا موقفها الرافض للعملية وطلبها بإعلان وقف إطلاق النار في إدلب.
ثالثاً، تواصل وزير الخارجية التركي مع نظرائه الأمريكي والألماني والفرنسي، فضلاً عن كتابة اردوغان لمقال في صحيفة وول ستريت جورنال بعنوان “على العالم أن يوقف الأسد”، وهو جهد حاولت أنقرة من خلاله تحصين موقفها وإعطاء جهودها بُعداً دولياً.
رابعاً، التعزيزات العسكرية التركية على الحدود وداخل إدلب بما في ذلك ما اعتبرت أسلحة هجومية، وهي خطوة – حتى في غياب أي تصريحات توتيرية من أنقرة – خدمت فكرة الردع وتعقيد الحسابات العسكرية والميدانية بما أفاد إمكانية تأجيل العملية بالحد الأدنى، خصوصاً وأن تركيا تملك 12 نقطة مراقبة عسكرية في المحافظة بناء على تفاهمات أستانا واتفاق مناطق خفض التصعيد.
خامساً، القمة الثنائية بين اردوغان وبوتين، والتي نتجت عنها مذكرة التفاهم.
يتضح مما سبق الجهد الكبير الذي بذلته أنقرة وكللته بتوقيع المذكرة بين الرئيسين، التي كانت مكسباً كبيراً للدبلوماسية التركية. وهو جهد أضيف للعوامل الأخرى الرادعة لشن الهجوم، وفي مقدمتها الكثافة السكانية العالية في إدلب، وعدد مقاتلي فصائل المعارضة وتسليحهم (ورد أن بعض التعزيزات التركية حملت لهم أسلحة نوعية)، وطبيعة جغرافيا المنطقة وعمقها المتمثل بمناطق النفوذ التركية في الشمال ومن خلفها الأراضي التركية، وكونها آخر معاقل المعارضة بما يعني استشراسها في الدفاع عنها، فضلاً عن التصريحات الأمريكية التي أوحت بتدخل محتمل، إضافة إلى حسابات تعقيد مسار الحل السياسي القائم وتفجير إطار أستانا وفق ما حذرت منه أو هددت به أنقرة.
المضامين الرئيسة في الاتفاق التركي الروسي تتمحور حول رفض العملية العسكرية في إدلب وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15-20 كلم بين النظام والمعارضة وسحب السلاح الثقيل منها وتسيير أنقرة وموسكو دوريات مشتركة للمراقبة والمتابعة مع تأكيد الطرفين على “محاربة الإرهاب”.
في ميزان التقييم، أنقذ هذا الاتفاق المنطقة التي يسكنها أكثر من 3 ملايين إنسان من كارثة إنسانية وحافظ على وجود فصائل المعارضة فيها وأبقى على المسار السياسي القائم، وتجنب تدخلاً عسكرياً غير مضمون المسار والعواقب كان يمكن له أن يخلط الأوراق ميدانياً بما يؤثر سلباً على استقرار المنطقة وجهود تركيا في مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، فضلاً عن أنه ثبّت دور تركيا في الشمال السوري واعتراف بقية الأطراف وفي مقدمتها روسيا به وبتواجدها العسكري والميداني.
لكن، من ناحية أخرى، من الصعب الجزم بمآلات الاتفاق أو فرص صموده على المدى البعيد، حيث تمثل في طريقه وتؤثر في مدى نجاحه عدة تحديات أهمها:
أولاً، أن صياغة بعض مواده فضفاضة وقابلة للتفسير بأكثر من اتجاه، وهذه عقبة مهمة في هذا النوع من الاتفاقات، ولذلك فقد حرص كل من الطرفين على تقديم تفسيره للاتفاق ونصوصه بما أظهر بعض التباينات المتوقعة.
ثانياً، لا يتفق الطرفان على تصنيف واحد للإرهاب والمنظمات الإرهابية من جهة وفصائل المعارضة المعتدلة والمقبولة من جهة أخرى، ولا على كيفية التمييز والتفريق بينهما وهي المهمة الرئيسة لهذا الاتفاق.
ثالثاً، ليس هناك ضمانات روسية حقيقية لتنفيذ الاتفاق وعدم تخطيه، إلا حرص موسكو على العلاقة مع انقرة وعدم خسارتها، وهو أمر لا يبعث على درجة عالية من الثقة.
رابعاً، بعض التفاصيل المهمة تركت للتفاهم حولها لاحقاً، مثل حدود المنطقة منزوعة السلاح التي اتفقا بخصوصها، وقد تتحول لألغام في طريق التنفيذ.
خامساً، رغم ترحيب النظام بالاتفاق، إلا أنه من الصعب ضمان عدم تصعيده ميدانياً في وقت لاحق، دون التنسيق مع موسكو أو بضوء أخضر منها. ويمكن قول شيء مشابه عن إيران كذلك، حيث ما زال سيناريو شرق حلب حاضراً في الأذهان حين صعّدت بعض الميليشيات في حينها بعد اتفاق تركي – روسي لتدخل إيران معهما ويتحول الاتفاق إلى مسار ثلاثي.
سادساً، يكمن التحدي الأكبر في كيفية تفكيك أو إذابة أو تحييد هيئة تحرير الشام، ذريعة النظام وروسيا للتدخل، حيث أن جهود أنقرة على مدى شهور طويلة لم تؤت أكلها تماماً وإن حققت نتائج جزئية، وهو ما يترك سيناريو المواجهة العسكرية كاحتمال قائم على المدى المتوسط.
في الخلاصة، مذكرة التفاهم بين أنقرة وموسكو إنجاز مهم جنب إدلب والقضية السورية تصعيداً مفتوحاً على احتمالات عدة ونتائج كارثية على المستوى الإنساني، وهي مذكرة ثبتت الدورين الروسي والتركي في المعادلة السورية أكثر فأكثر. إلا أنه لا يمكن اعتبار ما حصل اتفاقاً نهائياً أو حلاً ناجزاً للأزمة، وإنما ينبغي النظر إليه كتطوير فني على اتفاق خفض التصعيد السابق وتمديد للمهلة الممنوحة لتركيا للتعامل مع هيئة تحرير الشام في إدلب. الموعد الأوليّ المهم هو العاشر من تشرين الأول/أكتوبر القادم، التاريخ المنصوص عليه في المذكرة لإخراج “جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية من داخل المنطقة منزوعة السلاح”.
ورغم النص على دوريات تركية – روسية مشتركة إلا أن المسؤولية الأكبر في المحافظة وضعت على كاهل أنقرة ما يزيد الضغوط عليها، وما يجعلها في سباق مع الوقت لأكبر نسبة ممكنة من الإنجاز للحفاظ على الاتفاق قائماً على المدى المتوسط.
هذا المعنى، أن الاتفاق مؤقت وغير نهائي وقابل للتنصل منه أو من بعض بنوده، يضع مسؤوليات كبيرة أيضاً على المعارضة السياسية والمسلحة السورية في إدلب خصوصاً، لكيفية تعظيم المكاسب وتثبيت التهدئة وتفويت الفرصة وسحب الذرائع ووضع الاستراتيجيات المناسبة للمرحلة والمستقبل، وإلا فإن مآل الاتفاق لن يعدو كونه تأجيلاً للعملية العسكرية على إدلب لبعض الوقت.