قبل يومين فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية التركية، يمكن القول بنسبة كبيرة من الثقة إنها محسومة النتيجة سلفاً، وذلك للأسباب الثلاثة التالية:
أولاً، تظهر نتائج استطلاعات الرأي تقدماً ملحوظاً ومستقراً لمرشح العدالة والتنمية رئيس الوزراء الحالي رجب طيب اردوغان على منافسَيه، وتعطي نسب تصويت متقاربة جداً (تتراوح بين 53 إلى 58%) تضفي مصداقية كبيرة على أرقامها. وفي آخر استطلاع للرأي لشركة “كوندا” أعلن عن نتيجته أمس، حصل اردوغان على نسبة 57%، وحصل المرشح التوافقي إحسان أوغلو على نسبة 34%، فيما توقف نصيب دميرطاش عند حاجز 9%.
ثانياً، غياب أي مفاجآت في المشهد السياسي التركي وفق بعض التخوفات أو التوقعات، كتلك التي سبقت الانتخابات البلدية الأخيرة نهاية آذار/مارس المنصرم، الأمر الذي يترك الحسم بشكل كامل لرأي الناخب التركي، وفق ما تعكسه النتائج التي سبق ذكرها.
ثالثاً، غياب حالة السخونة والحدة التي تشهدها الانتخابات التركية بمختلف أنواعها (البلدية والبرلمانية والرئاسية) عادة، ورتابة الحملات الانتخابية. حتى إن أجواء وكواليس أحزاب المعارضة تشي إلى حد كبيربتقبل الهزيمة مسبقاً، حيث لم تنظم لمرشحها التوافقي مهرجانات انتخابية حاشدة ولا لمس الجمهور جدية ما في الدعاية والإعلان له، بل تم الاكتفاء ببعض اللقاءات الانتخابية النخبوية.
هكذا، تشير كل التوقعات إلى فوز اردوغان بمنصب الرئاسة بنسبة مريحة، وربما ستكون المفاجأة – إن حدثت – أن يُحتاج إلى جولة إعادة إن لم يحصل على نسبة نصف الأصوات المطلوبة للفوز من الجولة الاولى. والحال كذلك، ينبغي علينا أن نشغل أنفسنا بسؤال ما بعد الانتخابات، لا بسؤال الانتخابات نفسها، واضعين أمامنا ثلاثة عناوين تتعلق بالحزب الحاكم، والمعارضة، والمشهد السياسي بشكل عام.
حزب العدالة والتنمية
ما زالت كواليس الحزب الحاكم تتعامل بانضباط كبير مع التعليمات التي صدرت عن قيادته بعيد ترشيح اردوغان بالكف عن الحديث حول خليفته، رغم طرح العديد من الأسماء البارزة فيه، على رأسهم وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو.
لكن السؤال الوجيه ليس “من” بقدر ما هو “كيف” ستتم خلافة اردوغان في رئاسة الحزب، بشكل لا يترك فراغاً كبيراً بعد زعيمه التاريخي، وبشكل يتوافق أيضاً معه كرئيس للجمهورية، في ظلال التخوف من تكرار تجربتي حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال، وحزب الطريق القويم بقيادة سليمان دميريل، اللذين اندثرا أو كادا بعد انتقال قيادتهما التاريخية من رئاسة الحزب إلى كرسي الرئاسة.
أحد أكثر السيناريوهات تداولاً يتمثل بإيلاء رئاسة الحزب والحكومة لشخصية بارزة في القيادة، على وفاق مع رؤية اردوغان وسياساته، وسيكون هو في الأغلب الشخص نفسه الذي سيختاره اردوغان لرئاسة الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية العام القادم، إذا ما سارت الأمور وفق المتوقع.
السيناريو الآخر يتضمن فصل رئاسة الحزب عن رئاسة الحكومة، وبالتالي تخفيف الأعباء عن كاهل القيادة الجديدة وتوزيع المهام بين أكثر من شخصية، في محاولة ربما لإرضاء أكثر من تيار داخل الحزب. ويقوي هذا السيناريو التلميحات الكثيرة حول عدم يأس الحزب من إقناع رئيسه السابق ورئيس الجمهورية الحالي عبدالله غل بالعودة لقيادته، بعد أن أعلن مراراً عن عدم رغبته في منصب رئيس الوزراء، وهو ما يكفيه حرج العمل “تحت إمرة” اردوغان كرئيس.
السيناريو الثالث، والأقل حظاً، هو موافقة الرئيس غل على العودة لقيادة الحزب وترؤس الحكومة، وفق نموذج بوتين – ميدفيديف، ابتداءً من الانتخابات الرئاسية، أو بعد الانتخابات البرلمانية القادمة التي يفترض أن يقود حزبه خلال معركتها الانتخابية.
المعارضة وكشف الحساب
إذا ما صدقت التوقعات الحالية بخسارة المرشح التوافقي الذي اختارته المعارضة، وفرضته قيادتها على صفوف الحزبَيْن فرضاً، فستكون هذه القيادة أمام استحقاق دفع ثمن اختيارها، سيما وأن رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو لا يحظى برضا الدوائر القيادية في الحزب، وتتسرب من كواليسه منذ فترة طويلة نوايا إزاحته عن كرسي الرئاسة. تكتسب هذه التسريبات مصداقية لا يستهان بها بعد الفشل المتكرر في الانتخابات المتتالية (رغم الفرص المتاحة) وجنوحه بالحزب في أحيان كثيرة عن مبادئه التي أسس عليها (الكمالية والعلمانية تحديداً) برأيه الشخصي وقراره الفردي دون استشارة هيئات الحزب المختلفة، إضافة إلى تعالي الأصوات الاحتجاجية مراراً من أسماء بارزة في الحزب كان آخرها تسمية إحسان أوغلو مرشحاً توافقياً.
أما حزب الحركة القومية فقد ظهر الكبر والتعب على رئيسه السيد دولت بهجلي مؤخراً بشكل واضح، وقد تكون هذه الانتخابات، أو الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد حوالي 10 أشهر، فرصة لتجديد الدماء في قيادته، إما بانتقال سلس أو بضغط من قاعدته الشعبية ودوائره الحزبية.
النظام السياسي التركي
وبنتيجة هذه الانتخابات والمتغيرات المتوقعة بعدها، وبتأثير من طريقة اردوغان المنتظرة في الرئاسة، وفي ظل التطورات السياسية داخلياً وخارجياً، سيرسم ملفان مهمان شكل الحياة السياسية في تركيا في المستقبل القريب، وهما عملية السلام مع الأكراد، والنظام الرئاسي أو شبه الرئاسي الذي سيصار إليه عملياً ثم قانونياً، إن كان ذلك متاحاً.
وفي كلا الملفين يمكن استشراف تحالف انتخابي أو سياسي قريب بين العدالة والتنمية وحزب الشعب الديمقراطي (الكردي)، في ظل توافقهما على عملية السلام الرامية لإنهاء المشكلة الكردية بالطرق السلمية، وفي ظل ضعف أو تفكك أحزاب المعارضة الأخرى كما سبق تفصيله، الأمر الذي يعني أن تركيا ربما تكون أمام استحقاق صياغة دستور جديد وفق هذه التوجهات، ترسم طريق تركيا نحو أهداف 2023، مئوية تأسيس الجمهورية.