ما الفرص التي يفتحها كورونا أمام تركيا؟
فرض انتشار فيروس كورونا على جميع الدول التعامل مع المشكلات الاقتصادية جرّاء اتباعها لسياسة الإغلاق. وبالرغم من قتامة المشهد الاقتصادي العالمي، إلا أن هنا فرصاً اقتصادية أمام تركيا يمكن الاستفادة منها.
بات من المُجمَع عليه أن جائحة كورونا ستتسبب في أضرار اقتصادية على مستوى العالم، إن كان على الصعيد الجمعي على شكل ركود في الاقتصاد العالمي، هو الأكبر منذ الكساد الكبير في القرن الماضي، أو على الصعيد الفردي بحيث يتأثر معظم الدول -خصوصاً الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية- سلباً بدرجات متفاوتة.
وكنتُ في مقال سابق قد تطرقت إلى التحديات الاقتصادية التي تواجه تركيا في ظل أزمة كورونا لعوامل موضوعية مشتركة مع باقي العالم وأخرى ذاتية خاصة بها، ذلك أن بنية الاقتصاد التركي المعتمدة إلى حد كبير على الأموال الساخنة، والمساهمة الكبيرة للسياحة والاستثمار وغيرهما من القطاعات في الاقتصاد، والأزمة الاقتصادية والمالية التي تعرضت لها عام 2018 وكانت تتعافى منها وكان يُفترض بالعام الحالي أن يكون انطلاقة اقتصادها مرة أخرى، كلها عوامل ضاعفت التحديات الاقتصادية على تركيا.
كما أن الحكومة التركية قد أخذت على عاتقها مسؤولية تقليل الأضرار الناشئة عن الوباء على شرائح اجتماعية وقطاعات اقتصادية عديدة ضمن خطة “درع الاستقرار الاقتصادي” التي رصدت لها في البداية 100 مليار ليرة، أي 15 مليار دولار، ثم صرح وزير المالية براءت ألبيرق بأنها وصلت إلى حدود 240 مليار ليرة، أي 34 مليار دولار. هذه الجهود الحكومية إضافة إلى التأثيرات المباشرة للجائحة أدت إلى استنزاف احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية، وتراجع سعر صرف الليرة في الأسابيع الأخيرة.
لكن كل ذلك لا يعني أن مآلات الوباء سلبية بالكامل ولا ينفي وجود فرص، اقتصادية وغيرها، يفتحها الوباء أمام تركيا حالياً ومستقبلاً، كما هو الحال في كل الأزمات.
ففي المقام الأول، ينبغي الإشارة إلى أن التداعيات السلبية للوباء تشمل الجميع تقريباً على الساحة العالمية، ما يدفع إلى التريث في تقييم كل دولة على حدة. أو بمعنى أدق، فإن دلالات الأرقام والاتجاهات الاقتصادية تختلف عنها اليوم في ظل الجائحة وتبعاتها عنها ما قبل كورونا، وينبغي مقاربتها في ظلّ الاتجاهات العالمية وليس على نحو فردي.
أكثر من ذلك، فالارتدادات السلبية للجائحة مرتبطة إلى حد بعيد بالمدى الزمني الذي ستستغرقه الأزمة، إذ تقل كلما كان المدى أقصر، والعكس بالعكس، وهو الأمر المتعذر تقديره فضلاً عن الجزم به حالياً، ما يعني أن التعافي السريع من الوباء سيعني أضراراً اقتصادية أقلّ وتعافياً أسرع للاقتصاد، ولعل ذلك كان ضمن حسابات مدير البنك المركزي التركي مراد أويصال في توقعه بسرعة تعافي اقتصاد بلاده في النصف الثاني من 2020.
ولكن في العموم، أمام تركيا فرص فتحتها الأزمة اليوم أو قد تفتحها مستقبلاً، أهمها:
أولاً، تدعيم الصناعات المحلية، خصوصاً المتعلقة بالقطاع الصحي من أجهزة ومستلزمات وقاية وغيرها، وهي التي اكتفت بخصوصها تركيا ذاتياً بل وصدَّرت بعضها. ولا شك أن ذلك مما يعزز أمن القطاع الصحي ويرفع مستوى ثقة المواطن في ظل الأزمة وما بعدها.
ثانياً، تعزيز مكانة تركيا إقليمياً ودولياً، إذ بلورت بنجاح ما يمكن تسميته بدبلوماسية كورونا كان في قلبها المساعدات الطبية التي أرسلتها إلى عدد كبير من دول العالم، بما فيها دول غربية متقدمة. وقد أسهم ذلك في تعميق الحوار وتقوية الروابط مع مختلف الدول وضخ دماء جديدة في قنوات التواصل الجامدة مؤخراً مع بعض الجهات لا سيما الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً، أجّلت الأزمة توتراً محتمَلاً بين أنقرة وواشنطن في موعد نشر منظومة S-400 على الأراضي التركية الشهر الفائت، فقد أسهم تأجيل تركيا قرار تفعيل المنظومة، ومساعداتها الطبية للولايات المتحدة، والتواصل المكثف بين مؤسسات البلدين بما فيها الاقتصادية والمالية، في ترطيب الأجواء بينهما.
رابعاً، ساهمت أزمة كورونا في تراجع أسعار النفط والغاز عالمياً بمستويات غير مسبوقة وهو ما أفاد تركيا وقلّص أعباءها المالية كدولة مستوردة للطاقة، وهو عامل مرشح للاستمرار وإن بدرجة أقل في ظل تراجع الطلب عليهما عالمياً.
خامساً، قد تفتح الأزمة آفاقاً اقتصادية وتجارية مهمة لتركيا على هامش الصراع الأمريكي (والغربي عموماً) مع الصين في ظل أزمة كورونا، إذ تلوح بوادر حرب اقتصادية جديدة بين بكين وواشنطن بعد أن هددت الأخيرة بالعودة إلى سياسة العقوبات الاقتصادية ورفع التعريفة الجمركية على البضائع الصينية.
ولعل الضرر الأكبر قد وقع على سلاسل التوريد العالمية التي تعتمد على الصين بشكل أساسي، إذ تأثر عمل مصانع كثيرة، واهتزت الثقة بالصين بعد تراجعها عن تصدير بعض المنتجات لحاجتها هي إليها، وتضررت عملية النقل بفعل الجائحة.
يضاف إلى ذلك صدور إشارات دولية بالبحث عن بدائل للصين، كما جاء على لسان المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي فيل هوغان، إضافة لإعلان اليابان عن صندوق بقيمة 2.2 مليار دولار لإغراء شركاتها بالخروج من الصين، فضلاً عن الدعوات المشابهة في الولايات المتحدة.
يضع ذلك تركيا ضمن البدائل المحتملة للصين في المستقبل القريب، على صعيد تصدير بعض المنتجات كما على صعيد سلاسل التوريد العالمية، ومن ضمن الأمثلة الدالة على ذلك توجيه شركة “وول مارت” كبرى شركات البيع بالتجزئة عالمياً جزءاً من نشاطها لأسواق دول أخرى من بينها تركيا، إضافة لإعلان بعض شركات الألبسة عن نيتها نقل إنتاجها من الصين لمقاولين فرعيين في دول أخرى في مقدمتها تركيا.
سادساً، قد تساهم التداعيات الاقتصادية للأزمة عالمياً في دعم و/أو تسريع بعض الخطوات الاقتصادية والمالية التي تريدها أنقرة مثل التجارة بالعملات المحلية أو إعادة جدولة الدين الخارجي. كما أن تراجع سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية وإن أضرّ في مجال فإنه يفيد في آخر، مثل التصدير.
سابعاً، وأخيراً، فإن مدى كفاءة حكومة أي دولة في مواجهة الوباء صحياً واقتصادياً وإدارياً من أهمّ محددات الارتدادات طويلة المدى عليها، خصوصاً ما يتعلق بالشق الداخلي. يبدو ذلك إيجابياً حتى اللحظة بالنسبة إلى الرئيس أردوغان وحكومته، خصوصاً وزارة الصحة، ففي استطلاع أجرته جامعة أسكودار قال 58% من العينة المستطلعة آراؤهم إن بلادهم أنجح من الدول المتقدمة في مكافحة الوباء طبياً، فيما أظهر استطلاع رأي أجرته شركة متروبول أن 52% يؤيدون أداء أردوغان رئيساً للجمهورية.
في المحصلة، يبدو أداء تركيا أكثر من جيد في مواجهة الوباء صحياً، لكنه يضعها كغيرها من الدول أمام تحديات اقتصادية واضحة. بَيدَ أن الجائحة، كأي أزمة أخرى، تحمل بين طياتها التحديات والفرص جنباً إلى جنب، بما يجعل المآلات النهائية رهناً بعمق الأزمة والمدى الزمني لانتهائها وكذلك مدى كفاءة الحكومة في مواجهتها.
فإذا ما وضعنا في الحسبان أن تداعيات الأزمة تطال معظم -إن لم يكن كل- دول العالم، فسيكون من المنطقي القول إن تأثيرات الوباء على أي دولة ستتأثر كذلك إلى حد ما بأوضاع الأطراف الأخرى، ما يجعل عملية حسابات المآلات النهائية للأزمة معقدة ومتشابكة بما لا يشبه الأزمات الاقتصادية أو السياسية الاعتيادية، بما يشمل إمكانية تحويل المحنة إلى منحة.