ما الذي يغيره تنصيب السيسي في المشهد الثوري؟

لم يكن، ولا يجب أن يكون، تنصيب السيسي رئيساً لمصر أمراً مفاجئاً لمناهضي الانقلاب، أولئك الذين أدركوا المعادلة منذ البداية وعرفوا أنهم أمام انقلاب عسكري، ومن يقوم بانقلاب عسكري لا يترك السلطة لغيره. الذين يجب عليهم أن يتفاجؤوا هم أولئك الذين أصروا دائماً على أن تحرك السيسي كان “فقط” تلبية لإرادة ونداء جماهير الشعب. هؤلاء – الذين يدهشنا تقييمهم هذا – يحق لهم أن يتفاجؤوا بمشهد تنصيب السيسي رئيساً، ولهم في كلام أحد لواءات الجيش “إذا رأيتم السيسي حصل على علاوة، أو أصبح رئيساً فهو انقلاب” خير دليل.

لكن انعدام الدهشة لا يعني ثبات الموقف، فنحن بالضرورة أمام مشهد جديد، أو فصل جديد من فصول الانقلاب، ينبغي فهم أبعاده وتمظهراته ومآلاته بشكل معمق، حتى تبنى وفقاً لذلك الرؤية والخطط والوسائل والأساليب في مقارعته.

كثير من المراقبين وشباب الثورة يتفقون على هذه الرؤية المبدئية في هذا البعد، لكنهم يخرجون منها بنتائج وتوصيات مختلفة، إذ يعتبرون أن المعركة انتهت وأن الثورة هزمت، وعليها أن تبدأ الآن معركة جديدة بعناوين ومطالب مختلفة، ليس فيها عودة الرئيس المنتخب أو المؤسسات الشرعية، وهذا عين الهزيمة، إذ يعيد الثورة للعمل تحت سقف الانقلاب بعد أن تعطيه الشرعية والقبول، وهذا غاية ما يريد منها.

إن تغير المشهد وموازين القوى يفرض عليك أن تعيد تقييم الموقف، وأن تجدد من خططك وأساليبك ووسائلك، وليس أن تستبدل خصمك/عدوك أو تغير من عنوان وأهداف معركتك، فحينها – وحينها فقط – تكون قد هزمت، وليس قبل ذلك.

إن دروس الثورات الفرنسية والإيرانية والأوكرانية تقول بشكل واضح إن الثورة سيرورة طويلة، فيها من المد والجزر، والثورة والثورة المضادة، والارتفاع والهبوط ما فيها، مع كل ما يتضمنه ذلك من وقت وجهد وفكر وتضحيات. ولذلك، فافتراض نهاية الثورة وهزيمتها بمجرد تنصيب السيسي رئيساً هي رؤية مجتزأة بقدر ما هي متشائمة.

ولسنا هنا في وارد تحديد نقاط محددة “ينبغي” على من يدير المشهد الثوري أن يفعلها، إذ الأمر مرتبط أولاً بمعطيات الواقع التي لا نملك تفاصيلها، ولذلك وجب أولاً إعادة تقييم المشهد الميداني والشعبي في هذه المرحلة.

وأول هذه المعطيات التي ينبغي العمل على أساسها هو مشهد العزوف عن الانتخابات الرئاسية، بما يحمله من مشاهد الرفض أو التكاسل أو الترقب. إذ كان المشهد مؤاتياً جداً لموجة ثورية تشمل كل ربوع مصر وتعلي الثورة صادحة بالصوت والصدى، صدى اللجان الخاوية على عروشها.

البعد الآخر الذي ينبغي التنبه له هو أن العامل الخارجي حاضر بقوة في هذا الانقلاب ولو على استحياء وبصوت خفيض حتى الآن، لكنه لن يلبث أن يعلو شيئاً فشيئاً وبشكل تدريجي – قد لا يثير الانتباه – مع كل خطوة يقوم بها نظام الانقلاب، وسنجد بعد فترة من الزمن أن الكل يتعامل معه من باب الاعتراف أو التعامل مع الأمر الواقع. حتى أن دولاً عرفت بموقفها الرافض للانقلاب يتوقع لها أن تتواصل معه بشكل أو بآخر، اعترافاً أو تعاملاً، في العلن أو في السر، وما تهنئة قطر ومشاركة سفيرها في مشهد التنصيب منا ببعيد.

وعليه، فإن الاعتماد كان ولا زال ويجب أن يبقى منصباً على الداخل، الداخل فقط، فحراك الشارع هو الذي يعكس رفض الشعب للانقلاب، وهو الذي يستحث المواقف الإقليمية والدولية، وليس العكس، أما من ينتظر غيره ليخوض عنه معركته، ويبرع في خسارة الحلفاء أو المحايدين أكثر مما يبرع في محاربة الخصوم/الأعداء فسينتظر كثيراً – وربما أبداً – قبل أن يقطف ثمار ثورته.

وباعتبار أننا أمام مشهد جديد أصبح فيه قائد الانقلاب رئيساً، فينبغي التنبه للملفات الاقتصادية التي تهم المواطن العادي (لقمة العيش أولاً) أكثر من أي شيء آخر، ذلك أنه لم يعرف التاريخ ربما انقلاباً أجاد في حل ازمات البلاد الاقتصادية، وهذا عامل مهم جداً في استشارة “حزب الكنبة” الجديد، الذي لن ينزله للشارع رفضاً للانقلاب إلا تبعاته الاقتصادية المنعكسة على حياته اليومية.

وإلى جانب تفعيل الملف القضائي، تحتاج قوى الثورة إلى مبادرة سياسية جديدة يجتمع تحتها الكل الثوري، على قاعدة تجاوز أزمات الماضي التي أخطأ فيها الجميع وخُدع فيها الجميع بلا استثناء. اللهم إلا أن المعادلة اليوم ليست هي نفس معادلة الثورة على مبارك، فنحن أمام نظام أخذ أسوأ ما كان في النظام القديم وأضاف إليه أضعافاً مضاعفة من البطش والظلم والتجبر. بيد أن القوى الثورية (وأقصد هنا كل القوى الثورية، وليس فقط من احتكروا الاسم على مدى السنين الماضية) لا يملكون إلا التوافق طريقاً لهز عرش الفرعون الجديد.

إن معادلة المشهد الحالي تتجاوز فكرة الانقلاب على رئيس منتخب ومؤسسات شرعية إلى شكل دولة بنظام جديد حصل على شرعية صورية مشكوك بصحتها داخلياً وخارجياً (ونعتقد أن ذلك كان مقصوداً لعدم تفرد الجنرال بالمشهد، وتسهيل التضحية به في أي وقت يُحتاج فيه لذلك). وبناء عليه يجب أن يكون حاضراً في الأذهان سبل “إفشال” الدولة، من خلال تصعيد العمل الثوري والميداني، وفق رؤية واضحة وخطوات مرسومة وصولاً إلى لحظة العصيان المدني.

وخلاصة القول، إن مسرحية تنصيب السيسي رئيساً لمصر تفرض واقعاً جديداً ينبغي التعامل معه، ليس من خلال التسليم لذلك والخضوع لمعطياته، بل بإعادة التقييم والعمل بشكل متزامن على اكثر من صعيد، لتفعيل أدوار الشارع والإعلام والملف الحقوقي، وتقديم رؤية سياسية للقوى السياسية وخطاباً اقتصادياًَ مبسطاً للمواطن العادي، وتصعيد المظاهرات واقتناص الأزمات وصولاًُ إلى العصيان المدني وإعلان فشل النظام الجديد.

ندرك طبعاً أن هذه الطريق طويلة وتكتنف الكثير من الوقت والتضحيات والجهد، وأن معارضي الانقلاب في وضع لا يحسدون عليه من الضعف والملاحقة وقلة الإمكانات، ولكنها طريق الثورات والتغييرات التاريخية الكبرى، ولا نعتقد أن ثورة في التاريخ نجحت بدون دفع هذه الفاتورة الباهظة، فما بالنا بثورة ينتظر لها أن تغير خارطة المنطقة بأسرها؟

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

لماذا تأخر ترشح اردوغان للرئاسة؟

المقالة التالية

هل يراد تحجيم تركيا بجرها لصراع إقليمي؟

المنشورات ذات الصلة