ماذا وراء تحرك مجلس النواب الأمريكي ضد تركيا عبر الأرمن؟

ماذا وراء تحرك مجلس النواب الأمريكي ضد تركيا عبر الأرمن؟

تقرير – الخليج أون لاين

تشهد العلاقات الأمريكية التركية تصاعداً في التوتر منذ قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشكل غير مسبوق، وإن كانت تلك التوترات بين شد وجذب بين الطرفين الحليفين، ولكن التهديد المستمر بفرض عقوبات إن لم تستجب أنقرة لرغبة واشنطن بشكل علني وصريح بات مكرراً في السنوات الأخيرة.

لا شك أن العلاقات بين تركيا وأمريكا لم تكن جيدة في عهد الرئيس السابق بارك أوباما، خصوصاً في التعامل مع ملف تسليح الوحدات الكردية، وعدم بيع تركيا منظومة باتريوت الدفاعية، وملفات أخرى، ولكنها كانت خاضعة للعقلية الدبلوماسية أكثر مما هي عليه الآن في ظل سلوك ترامب وأسلوبه في التعامل مع دول العالم ومع الدول الإقليمية والوظيفية في المنطقة، عبر سن عقوبات أو إجراءات، كما حصل مع أزمة القس روبنسون بين واشنطن وأنقرة عام 2018.

التصعيد الأمريكي الأخير تجاه تركيا كان بإقرار مجلس النواب الأمريكي، يوم الثلاثاء (29 أكتوبر الجاري)، مشروع قانون يصف المزاعم الأرمنية بخصوص “أحداث 1915” بـ “الإبادة الجماعية”، وآخر ينص على فرض عقوبات ضد تركيا بذريعة عملية “نبع السلام” التي شنتها تركيا بمساعدة الجيش الوطني السوري المعارض في مناطق شرق الفرات شمالي سوريا.

ضغط غير مسبوق

وللمرة الأولى يصل مشروع قانون للاعتراف بمزاعم “الإبادة الأرمنية” إلى التصويت في الكونغرس بعد محاولات عدة سابقة كانت تبوء بالفشل، ما يبدو أنه مزيد من الضغط على الحكومة التركية بسبب عملية “نبع السلام” التي قامت بها للدفاع عن أمنها القومي، ومنع قيام مشروع انفصالي في المناطق الشمالية من سوريا.

وصوّت المجلس بأكثرية 405 أصوات مقابل 11 صوتاً يرفض ذلك، وحول ذلك قالت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي (من الحزب الديمقراطي): “تشرفت بالانضمام إلى زملائي في إحياء ذكرى إحدى أكبر الفظائع في القرن العشرين؛ القتل المنهجي لأكثر من مليون ونصف مليون من الرجال والنساء والأطفال الأرمن على يد الإمبراطورية العثمانية”.

هذا وقدم مشروع القانون رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، آدم شيف، في أبريل الماضي، ومن المنتظر عرض القانون للتصويت داخل مجلس الشيوخ الأمريكي خلال مدة قصيرة، وفي حال الموافقة عليه سيكون نافذاً.

وفي عام 2015، وللمزيد من الضغط على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، في ملفات متعددة، قامت حكومات وبرلمانات من 29 بلداً، من ضمنها روسيا، والبرازيل، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وكندا، وكذلك 44 ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب الأمم المتحدة؛ بالاعتراف بأن الأحداث التي حصلت للأرمن كانت إبادة جماعية.

وفي سياق متصل، صوت أعضاء مجلس النواب الأمريكي، بأغلبية 403 أصوات مقابل 16 صوتاً، تأييداً للقرار، الذي يطالب الرئيس دونالد ترامب بفرض عقوبات وقيود أخرى على تركيا والمسؤولين الأتراك بسبب عملية “نبع السلام” أيضاً.

وهدد ترامب ومشرعون أمريكيون أنقرة بعقوبات اقتصادية إذا لم توقف عملية “نبع السلام” فوراً، لكن إصرار تركيا على الاستمرار في العملية أدى إلى اتفاق بينها وبين الولايات المتحدة يقضي بانسحاب الوحدات الكردية من المنطقة لعمق 30 كم خلال 120 ساعة، تلاه اتفاق مع روسيا في 22 أكتوبر الجاري يؤكد انسحاب تلك الوحدات وتسيير دوريات مشتركة مع الروس في المنطقة.

أزمة ثقة

وحول ذلك قال الباحث في الشأن التركي سعيد الحاج، في حديث مع “الخليج أونلاين”: إن “ما حصل يعكس إلى أين وصلت العلاقات التركية الأمريكية مؤخراً من أزمة ثقة كبيرة ومتبادلة، حيث إن فكرة الاعتراف بأحداث 1915 على أنها إبادة جماعية مقصودة من الدولة العثمانية للأرمن، يحصل بشكل متكرر في الكونغرس الأمريكي، والرئيس الأمريكي يمتلك صلاحيات استخدام مصطلح معين حول إبادة أو كارثة أو أزمة، ومن ثم كان الرؤساء الأمريكيون سابقاً تقليدياً لا يستخدمون مصطلح إبادة للحفاظ على العلاقات مع تركيا”.

وأضاف الحاج: “الآن اختلف الأمر، لأن الكونغرس يتجه لفرض عقوبات على تركيا كدولة وحكومة وشخصيات قيادية فيها، وبحسب ما هو متداول فإن إقرار العقوبات في مجلس الشيوخ بعد مجلس النواب يعني أن ذلك القرار سيكون نافذاً دون الحاجة لإقرار الرئيس، وهو مؤشر على المنحى المطرد سلباً والمتراجع دائماً في العلاقات الأمريكية التركية في السنوات القليلة الأخيرة، بغض النظر عن التفاهمات هنا أو المصالح المشتركة هناك، أو الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وعضوية حلف الناتو التي تجمع بينهما”.

ويرى متابعون للشأن التركي أن قيام واشنطن باستخدام ورقة “الأرمن” في هذا التوقيت يشي بأن الولايات المتحدة تريد الضغط أكثر على أنقرة من أجل المزيد من المكاسب في شمال سوريا، بخصوص تقليص حجم المنطقة الآمنة والابتعاد عن آبار النفط، ولامتعاضها من التقارب التركي الكبير مع روسيا في الملف السوري.

إدانة تركية

وعلى خلفية القرارين، استدعت الخارجية التركية السفير الأمريكي بأنقرة، بعد أن أعلنت، في بيان بوقت متأخر يوم الثلاثاء (29 أكتوبر الحالي)، أن “القرار (فرض العقوبات) لا يتناسب مع عضوية البلدين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)”.

وأضافت الخارجية أن “هذه الخطوة لا تتفق مع اتفاق الهدنة الذي توصلت إليه أنقرة وواشنطن في 17 أكتوبر الجاري بشأن وقف الهجوم التركي في شمال سوريا”.

واجتمعت كل الطبقة السياسية في تركيا، الحاكمة والمعارضة، على إدانة اعتراف مجلس النواب الأمريكي بأحداث 1915 على أنها “إبادة للأرمن”، حيث وصفها الرئيس رجب طيب أردوغان بأنها لا قيمة لها ولا يعترف بها، وهي أكبر إهانة للشعب التركي.

وسبق أن رد وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، على ذلك بأنه “قرار مخز من قبل أشخاص يستغلون التاريخ في السياسة”، وأضاف أن هذا القرار “لاغ وباطل” بالنسبة لتركيا.

في حين قال السفير التركي لدى واشنطن، سردار قليج، على حسابه بموقع “تويتر”: إن “مثل هذه القرارات لا تلحق أي أذى بتاريخنا المشرف، لا سيما أنها قرارات جاءت تحت ضغط اللوبيات المعروفة بشكل يفتقر إلى الحيادية، وبعيد كل البعد عن الحقائق التاريخية التي تقتضي إجراء عملية بحث في أرشيفات الدول المعنية”.

بدوره علق رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، يوم الأربعاء (30 أكتوبر 2019)، إن “مشروع القرار (إبادة الأرمن) هذا يعد تطوراً يثير قلق كل من يقدّر العلاقات التركية – الأمريكية”، مضيفاً أن “الذين صوتوا على المشروع بنعم سيتحملون مسؤولية تدهور العلاقات الحساسة من الناحية الاستراتيجية في منطقة مضطربة”.

جدية واشنطن

وحول جدية العقوبات، أشار الباحث سعيد الحاج، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، إلى أن “الاتفاق الذي حصل بين أنقرة وواشنطن بين الرئيس أردوغان ومايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، لم يشر صراحة إلى أن الإدارة الأمريكية سوف توقف تماماً مسار وقف العقوبات التي يعمل عليها الكونغرس، إنما أشارت إلى إيقاف أي عقوبات أمريكية من الرئيس، أما الكونغرس فسيستمر التشاور معه بما يخص العلاقات التركية الأمريكية، وهنا ستتحجج إدارة ترامب بأنها لا تملك سلطة على الكونغرس؛ لأن سلطته مستقلة”.

ولفت إلى تصريحات الرئيس أردوغان بأنه ما زال غير حاسم بالنسبة لقراره الذهاب إلى القمة مع الرئيس الأمريكي أم لا، مضيفاً: “أنا أرجح أن الزيارة قد لا تتم، لا سيما في ظل الرسالة غير الدبلوماسية المسربة للإعلام التي أرسلها ترامب لأردوغان ليلة عملية نبع السلام في سوريا، والتي لا يبدو حتى اللحظة أن الإدارة الأمريكية اعتذرت عنها بشكل مبطن أو وضحتها، ومن ثم سيكون هذا محرجاً للرئيس التركي أن يذهب دون وعد من الإدارة الأمريكية بتصحيح الصورة الحالية”.

ويرى الحاج أنه “إن لم تتم هذه الزيارة في ظل فرض العقوبات على تركيا، فأنا أعتقد أن الانطباع بتوتر العلاقات بين البلدين سيتعزز أكثر فأكثر”.

ماذا جرى مع الأرمن؟

تعاون القوميون الأرمن مع القوات الروسية؛ بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى التي انطلقت عام 1914.

وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول لقي دعماً كبيراً من المتطوعين الأرمن العثمانيين والروس، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي.

وبينما كانت الوحدات العسكرية الأرمنية تعطل طرق إمدادات الجيش العثماني اللوجستية، وتعيق تقدمه، عمدت العصابات الأرمنية إلى ارتكاب مجازر بحق المدنيين في المناطق التي احتلوها، ومارست مختلف أنواع الظلم بحق الأهالي.

وسعياً منها لوضع حد لتلك التطورات، حاولت الحكومة العثمانية إقناع ممثلي الأرمن وقادة الرأي لديهم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ومع استمرار هجمات المتطرفين الأرمن، قررت الحكومة، في 24 أبريل من عام 1915، إغلاق ما يعرف باللجان الثورية الأرمنية، واعتقال ونفي بعض الشخصيات البارزة منهم. واتخذ الأرمن من ذلك التاريخ ذكرى لإحياء “الإبادة العرقية” المزعومة، في كل عام.

وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية رغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 مايو من عام 1915، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، المتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.

ومع أن الحكومة العثمانية خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، فإن عدداً كبيراً من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.

وتؤكد الوثائق التاريخية عدم تعمد الحكومة وقوع تلك الأحداث المأساوية، بل على العكس، لجأت إلى معاقبة المتورطين في انتهاكات ضد الأرمن في أثناء تهجيرهم، وأُعدم المدانون بالضلوع في تلك المأساة الإنسانية، رغم عدم وضع الحرب أوزارها.

وعقب انسحاب روسيا من الحرب جراء الثورة البلشفية عام 1917، تركت المنطقة للعصابات الأرمنية، التي حصلت على الأسلحة والعتاد الذي خلفه الجيش الروسي وراءه، واستخدمتها في احتلال العديد من التجمعات السكنية العثمانية.

وبموجب معاهدة “سيفر”، التي اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيعها، فُرض تأسيس دولة أرمنية شرقي الأناضول، إلا أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، ما دفع الوحدات الأرمنية إلى إعادة احتلال شرقي الأناضول، وفي ديسمبر 1920 دُحرت تلك الوحدات، ورسمت الحدود الحالية بين تركيا وأرمينيا لاحقاً، بموجب معاهدة “غومرو”.

لكن تطبيق المعاهدة تعذر بسبب كون أرمينيا جزءاً من روسيا في تلك الفترة، ومن ثم قُبلت المواد الواردة في المعاهدة عبر معاهدة موسكو الموقعة 1921، واتفاقية قارص الموقعة مع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، لكن أرمينيا أعلنت عدم اعترافها بها عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991.

ومنذ سنوات تسعى أرمينيا وحلفاؤها في دول العالم، لدفع تركيا إلى الاعتراف بما حصل خلال عملية التهجير عام 1915 على أنه “إبادة عرقية”؛ لأن ذلك يجبر أنقرة على دفع تعويضات، وهو ما ترفضه تركيا بالمطلق وتدعو لتشكيل لجنة مشتركة لبحث القضية بشكل موضوعي.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

قراءة في الاتفاق التركي - الروسي حول شرق الفرات

المقالة التالية

هل تبدأ أنقرة علاقات رسمية مع دمشق؟

المنشورات ذات الصلة