ماذا قصد أردوغان بدعوته بوتين لأن يكون “صانع سلام”؟
عربي 21
نقلت وسائل إعلام أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال خلال عودته من بروكسل قبل أيام إنه سيتصل بنظيره الروسي فلاديمير بوتين ليقول له أو يطلب منه أن “يقوم بخطوة أولى مشرفة” بخصوص وقف الحرب في أوكرانيا وأن يكون “صانع سلام”.
وقد حظيت هذه التصريحات بالكثير من الاهتمام وحُمِلت على عدة تفسيرات، منها أنها مديح مبطن لبوتين ومحاولة لمغازلة الطرف الروسي، أو السعي لإنجاح الوساطة التركية بأي طريقة، أو إرهاصات تبدُّلٍ في الموقف التركي من الحرب وغيرها.
بيد أن شيئاً من ذلك لا يصلح تفسيراً منطقياً لتصريحات الرجل، إذ لا يوجد أي مؤشرات على تغير جوهري في الموقف التركي من الحرب، وهو الموقف الذي صاغته أنقرة بعناية وحذر ليتوافق – أو بالأحرى لئلا يتعارض – مع دقة موقفها وحساسية علاقاتها مع مختلف الأطراف، روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تحسبها للانعكاسات السلبية للحرب عليها استراتيجياً واقتصادياً ورغبتها في تجنب الحاجة لاتخاذ قرارات دقيقة بخصوصها مثل تفعيل اتفاقية مونترو للمضايق أو الموقف من روسيا في حال انخراط الناتو في الحرب…الخ.
كما أن أنقرة استثمرت هذا الموقف الدقيق، وتمايزها عن النبرة الحادة تجاه موسكو التي انتهجها الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه التحديد، ورفضها المشاركة في العقوبات على موسكو لأسباب مبدئية ومصلحية، لتقدم نفسها وسيطاً بين الجانبين المتحاربين، وهو ما كان في اللقاء الأول الذي جمع وزيرَيْ خارجيتهما في أنطاليا، واليوم في الجولة الثانية التي تستضيفها إسطنبول.
ولذلك، لا يبدو أن تركيا قد غيرت من موقفها في الأزمة، كما ان تصريحات مسؤوليها المتكررة بخصوصها تواترت حول نفس العناوين والأفكار. ولذا، نرى أن تصريح أردوغان يحمل أحد المعاني التالية أو بعضها وعلى الأغلب كلها معاً:
الأول، استثمار العلاقات الشخصية الجيدة بينه وبين بوتين، وقد ساهمت هذه العلاقات في حل بعض الإشكالات وتجاوز بعض الازمات نحو إبرام تفاهمات معينة بينهما أكثر من مرة كانت روسيا وتركيا طرفاها، لا سيما في سوريا.
الثاني، التوجه له بهذا الخطاب من باب أن بلاده هي التي شنت الحرب وبالتالي عليها مسؤولية وقفها، كما أنها إشارة لها بعدِّها الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية ما يعني أن قرارها بوقف الحرب والتوجه لحل سياسي مستدام سيكون له وقعه وتأثيره، لا سيما وأن أوكرانيا تردد منذ البداية على لسان رئيسها زيلينسكي رغبتها في التفاوض وإبرام اتفاق.
الثالث، مراقبة أردوغان للتطورات الميدانية للحرب وتباطؤ التقدم الروسي في الفترة الأخيرة إضافة لتأثيرات العقوبات الاقتصادية عليها، وبالتالي تزايد إقبال موسكو على فكرة التفاوض والحل السياسي. ما يعني أن أردوغان هنا يقدم سلماً للنزول عن الشجرة، وبشكل لا يستعدي بوتين ولا يلامس حساسياته وإنما يحفزّه ويرفع من قيمة القرار الذي يطالبه أردوغان باتخاذه، بحيث يحاول أن يمحو قرار الحرب بقرار وقفها.
في المحصلة، لا تبدو تصريحات الرئيس التركي تعبيراً عن تغير في موقف بلاده، وليس ذلك متوقعاً في ظل غياب أي تغيرات جوهرية في تطورات الحرب نفسها ومواقف مختلف الأطراف منها، وأقصد هنا عدم انخراط الناتو فيها بشكل مباشر على وجه التحديد.
وفي العموم يمكن تشبيه تصريحات الرجل بسابقات لها بخصوص الأزمة الخليجية، حين اتخذت انقرة موقفاً داعماً للدوحة لكن دون استعداء الرياض (وهو موقف مشابه أيضاً لموقفها الحالي)، وكرر الرئيس التركي أكثر من مرة أن السعودية هي “الشقيقة الكبرى” للخليج داعياً الملك سلمان لاتخاذ قرارات من شأنها إنهاء الأزمة، وقد قصد بتلك التصريحات كذلك توجيه المسؤولية لمتخذ القرار المؤدي للأزمة والقوي القادر على إنهائها في آنٍ معاً، وهو خطاب تحميل مسؤولية وتحفيز.
وفي العموم، يبدو أن موقف تركيا ودورها في الأزمة قد حظيا برضى طرفَيْها، حيث وافقت روسيا على المشاركة في جولة تفاوضية ثانية في إسطنبول، بينما ذهبت أوكرانيا لأبعد من ذلك مُطالـِبةً بمشاركتها كدولة ضامنة في أي اتفاق مستقبلي وفق معادلة (خمسة زائد اثنان) أي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا وتركيا، وهو مكسب كبير للدبلوماسية التركية، يضاف لكاسبها العامة ومكاسب الجميع من توقف الحرب بكل تبعاتها، إن نجحت الوساطة.