ماذا تقصد الولايات المتحدة حين تتحدث عن “دولة فلسطينية”؟
عربي 21
10/2/2024
مع استعصاء الحل العسكري “الإسرائيلي” في قطاع غزة ووصول مختلف الأطراف لقناعة باستحالة تحقيق العملية البرية في غزة لأهدافها المعلنة، تتعالى في الآونة الأخيرة الأصوات المنادية بحل سياسي للقضيةالفلسطينية، في محاولة لبث الروح في “حل الدولتين” الذي قتله الاحتلال منذ سنوات طويلة دون مراسم دفن.
فنتنياهو كان قد عارض حديث الرئيس الأمريكي عن “دولة فلسطينية” قائلا إنه “لن يساوم على السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، وهو ما لا يمكن التوفيق بينه وبين دولة فلسطينية”. كما صرح الرئيس “الإسرائيلي” هرتسوغ بأنه “لا يوجد إسرائيلي عاقل يقبل بحل الدولتين”، فضلا عن تصريحات أخرى لعدد من السياسيين في دولة الاحتلال تصب في الإطار نفسه.
الرد على نتنياهو أتى على لسان جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي قال إن بلاده “تعتقد بحق الفلسطينيين في العيش في دولة مستقلة”، وهو سياق تكرر في عدد من تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، كما أكد بايدن على ضرورة أنه “عندما تنتهي الأزمة” ينبغي أن تكون ثمة رؤية تشمل حل الدولتين. إلى ذلك، أعلنت لندن عن “خطة النقاط الخمس” التي تتضمن إنشاء “أفق سياسي لإقامة دولة فلسطينية”، كما يعد منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل “خريطة طريق أوروبية من عشر نقاط لحل النزاع العربي- الإسرائيلي”.
فما الذي تغير؟ وما الذي تسعى إليه مختلف الأطراف الدولية؟ وماذا تقصد واشنطن على وجه التحديد حين تتحدث عن دولة فلسطينية؟
تنبغي الإشارة أولا إلى أن “حل الدولتين” مصطلح له دلالات واضحة معروفة للجميع. فهذا الحل، الذي كان مرجعية لاتفاق أوسلو بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية، يشير إلى قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الحل المتبنى دوليا وتدعو إليه وتدعمه تقليديا مختلف الدول بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
اختلف الأمر جذريا مع رئاسة دونالد ترامب الذي هندس اتفاقات “أبراهام” للتطبيع بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، وغابت أي مشاريع أو مقترحات جدية في هذا الإطار عن رئاسة بايدن؛ لأسباب في مقدمتها أن “إٍسرائيل” قوّضت أي إمكانية لإنشاء دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال تدميرها للأرضية التي يمكن أن تسمح بذلك، عبر الاستيطان والسيطرة الأمنية المباشرة واستباحة الضفة وتقطيع أوصالها وغير ذلك.
وعليه، فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحدث اليوم عن دولة فلسطينية تدرك أن لا فرصة لها على أرض الواقع بسبب ممارسات الاحتلال، وهي رغم ذلك لم ولا تمارس عليه ضغطا حقيقيا بهذا الخصوص، كما أنها تخوض الحرب الحالية معه كتفا بكتف ورصاصة برصاصة. فلماذا إذن الحديث الآن عن “دولة فلسطينية”؟
في المقام الأول ترى واشنطن، وهي محقة في ذلك، أن انسداد الأفق السياسي وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم أحد أهم أسباب انفجار السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولذلك تشعر أن زلزلا عسكريا وأمنيا بهذا الحجم ينبغي أن يدفع نحو مسار سياسي ما، تماما كما حصل في محطات سابقة أهمها مسار مدريد- أوسلو الذي أتى بعد الانتفاضة الأولى.
كما أن هذه الخطوة تسعى ضمنا إلى محاولة الالتفاف على المنجزات الميدانية لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية، خصوصا بعد انتفاء الأوهام بإمكانية القضاء عليها أو نفيها من غزة فضلا عن استسلامها. وبالتالي، فالأمر يقع ضمن رؤية أمريكية تسعى لتعظيم مكاسب الاحتلال وتقليل خسائره في المواجهة الحالية.
بيد أن أحد أهم الدوافع هو تخفيف حدة الانتقادات والاعتراضات التي تواجه الإدارة الأمريكية داخليا وخارجيا بسبب موقفها من الحرب، لا سيما أن بايدن مقبل على انتخابات رئاسية تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرصه فيها تتأثر سلبا بموقفه من العدوان على غزة. وأخيرا، تحاول واشنطن أن تمنع التأثيرات السلبية للعدوان على مسار التطبيع العربي مع الاحتلال، ولذلك فهي تضع “الدولة الفلسطينية” كغطاء للهدف الرئيس وهو إدامة مسار التطبيع وإتمامه.
عمليا، المطروح اليوم ليس “حل الدولتين” المتعارف عليه، وإنما حل “دولتين” بدون “ال” التعريف. أي أن المطروح أمريكيا وغربيا في أغلبه ليس دولة فلسطينية حقيقية كاملة السيادة على المناطق المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإنما “أي دولة فلسطينية” بغض النظر عن المواصفات. ففي التصريحات الأمريكية والغربية ليس هناك تأكيد دائم كما في السابق على حل الدولتين، وإنما هناك دعوة لدولة فلسطينية بمعنى أن الأرض والحدود والمياه والسيادة والسلاح (فضلا عن عودة اللاجئين) أمور غير محسومة ومتروكة للتفاوض وموازين القوى والأمر الواقع.
والأمر الواقع أن الاحتلال لم يكتف بما فعله على مدى العقود الماضية من تقويض أركان الدولة المنتظرة، ليذهب خلال هذه الحرب نحو خطط أقرب لضم أجزاء من قطاع غزة و/أو استمرار احتلاله لها على المدى المتوسط. إزاء ذلك كان الانتقاد الأمريكي خجولا جدا وأقرب لتسجيل موقف وإطلاق تصريحات تقليدية بروتوكولية؛ منه لموقف حقيقي وقوي رافض لهذه الخطوات، علما أن واشنطن تملك -إن أرادت بما تؤمّنه لدولة الاحتلال من دعم سياسي وعسكري- إرغامه على القيام خطوات بعينها وتجنب أخرى.
التصريحات الأمريكية والغربية وبعض العربية تدعم هذه الفرضية، أي السعي نحو “أي دولة” فلسطينية، فكلٌّ من وزير خارجية الولايات المتحدة بلينكن ومستشارها للأمن القومي جيك سوليفان يتحدثان عن مبادئ تتعلق بـ”دولة فلسطينية”، فيما دعا وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون للبدء في تحديد “الشكل الذي ستبدو عليه “الدولة الفلسطينية”، و”ما الذي ستتنازل عنه”.
وأما الدول العربية التي نكصت عن “المبادرة العربية للسلام” وقلبت مسارها من دولة فلسطينية أولا ثم تطبيع إلى تطبيع أولا ثم دولة، ثم تراجعت عن ذلك أيضا إلى تطبيع أولا ثم “تحسين ظروف الفلسطينيين”، فلم نسمع في ظل جرائم الحرب المرتكبة في غزة من أي دولة عربية منخرطة في هذا المسار عن إلغائه أو تجميده أو حتى التلويح بإمكانية تجميده، بل صدرت بعض المواقف والتصريحات التي تشير إلى أن التطبيع ما زال ممكنا مع “إٍسرائيل” رغم كل ما اقترفته من جرائم حرب في غزة؛ إذا ما كان هناك “مسار” سياسي “يمكن أن يفضي” في نهاية المطاف لـ”دولة فلسطينية”.
وعليه، ختاما، فالتركيز الأمريكي الحالي على فكرة الدولة الفلسطينية ليس مدفوعا بالندم على محطات سابقة ولا برغبة في منح الفلسطينيين بعض حقوقهم، وإنما نتيجة للواقع الجديد الذي أنتجته “طوفان الأقصى” وما تبعتها حتى اليوم من إنجازات المقاومة وصمود الشعب من جهة، ومن جهة ثانية هي محاولة أمريكية لبناء قطاع غزة بدون حماس بعد الحرب وتدعيم مسار التطبيع كنوع من “الثمن” المدفوع لدولة الاحتلال.
وهذا المعنى تحديدا هو ما أشار إليه بلينكن لنتنياهو، متحدثا عن “استعداد ورغبة” لدى بعض الدول العربية “لدمج إسرائيل في المنطقة مع منحها ضمانات أمنية مقابل مسار عملي يفضي للدولة الفلسطينية”، مؤكدا على المكاسب الكبيرة لدولة الاحتلال في معادلة كهذه، وعلى أن الولايات المتحدة ستكون حينها قد “خلقت منطقة جديدة تماما، تمكنها من مواجهة التحدي الأكبر لها ولإسرائيل، أي إيران”.