ماذا بعد تصويت الأمم المتحدة؟
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
سعدنا جميعاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم أمس الخميس، الذي رفض أي تغيير على وضع القدس القانوني كرد على قرار الرئيس الأمريكي اعتبار المدينة عاصمة لـ”إسرائيل” ونيته نقل سفارة بلاده إليها، بموافقة 128 دولة ورفض 9 وامتناع 35 عن التصويت.
كان القرار فعلاً صفعة على وجه ترمب وربما يصح وصفه بالتاريخي بلا مبالغة، ليس فقط لأنه رفض القرار الأمريكي وأدانه قانونياً ودولياً وحسب، ولكن أيضاً لأنه أتى بعد تهديدات ترمب ومندوبته في الأمم المتحدة نيكي هايلي بتسجيل أسماء الدول المؤيدة للقرار وقطع المعونات عنها. لقد ظهرت زمجرات ترمب عاجزة عن التأثير المباشر إلى في دول هامشية صغيرة لم نسمع أسماء بعضها قبلاً (قيل إن مجموع عدد سكانها لا يتجاوز 87 ألف نسمة).
أقول، نسعد بهذا القرار ونطرب له باعتباره صفعة معنوية لهمجية الرئيس الأمريكي الذي يتعامل مع السياسة الدولية بمنطق المصارعة الحرة والتجارة، المجالان اللذان عمل بهما قبل الانتقال للبيت الأبيض، ولكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن الحقائق التالية:
أولاً، لا يمكن اعتبار القرار نصراً للقضية الفلسطينية، وإنما ما فعله أنه حال دون هزيمة مدوية وفضحية كبيرة لو استطاع ترمب منعه.
ثانياً، قرار الجمعية العامة – كما عموم قراراتها – ليس ملزماً، وإنما بمثابة توصية، وبالتالي فغالب الظن أنه سينضم لسابقيه من القرارات التي لم ولن تنفذ، سيما تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
ثالثاً، نتيجة التصويت لا تعني بأن كل الدول الموافقة على القرار ملتزمة بالحق الفلسطيني أو مدافعة عنه، فمنشأ خلافها – خصوصاً الأوروبية منها – مع قرار ترمب هو التوقيت والخطاب والأسلوب والانعكاسات السلبية المتوقعة على “مسيرة السلام” وليس الجوهر أو المضمون بالضرورة، وإلا فإن معظم تلك الدول ملتزمة بحل الدولتين وفق ما تفضي إليه عملية التفاوض (ولكم أن تتخيلوا مخرجاتها الممكنة) وليس أكثر من ذلك.
رابعاً، نتيجة القرار إيجابية برفضها لقرار ترمب ، لكن مضمون القرار ليس كذلك بحديثه عن “القدس الشرقية” وعملية التسوية وإحالته لعدد من القرارات الدولية السابقة ذات الانعكاسات السلبية على القضية الفلسطينية.
لكن ذلك لا يعني أن القرار بلا فائدة أو أنه لا يمكن – بل ينبغي – البناء عليه. لكن الأمر يحتاج إلى “رؤية” مبنية على إرادة واضحة وليس إلى “حَوَل سياسي”.
الحول السياسي هو التوهم بأن القرار المتخذ قد أحرج واشنطن أو ضغط عليها بما يكفي للتراجع عن قرارها، وبالتالي الظن أنه من الممكن “إعادتها” إلى وضعها السابق كوسيط في عملية التسوية مع الاحتلال الصهيوني، الآن أو لاحقاً. أو أن يظن البعض بأن القرار قد حشرها في الزاوية وأدى إلى “عزلها” بالمعنى الدقيق للكلمة، وبالتالي بحث السلطة عن “وسطاء” جدد على الساحة الدولية مثل روسيا أو الصين، كما صدر عن بعض قيادات السلطة.
الحول السياسي يعني افتراض سلامة عملية التسوية منذ مدريد ثم أوسلو وحتى الآن، بكل مراحلها وخطواتها والتزاماتها وانعكاساتها، ووضع كل المشكلة في قرار ترمب الأخير، بما يعني أن الحل هو “استبدال” الوسيط الأمريكي فقط، بافتراض أن ذلك ممكن أو أياً من الأطراف يملك القدرة على تحقيقه أصلاً.
أما الرؤية السليمة فتقول إن قرار الجمعية العامة فرصة لالتقاط الأنفاس ينبغي البناء عليها بطريقة صحيحة وفعالة. يشتمل القرار على أبعاد سياسية وقانونية لا يمكن الاستهانة بها وينبغي الاعتماد عليها، لكن ليس على قاعدة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه أو اقتناص الفرصة لتحسين شروط عملية التسوية أو مساومة واشنطن على جولة تفاوض جديد.
المطلوب هو تبرؤ السلطة الوطنية الفلسطينية من التزامات أوسلو السياسية والأمنية بما يخفف من قبضتها الأمنية على الشارع الفلسطيني لصالح الاحتلال من جهة، والتوجه الصادق والحقيقي والمنظم نحو المؤسسات الدولية انضماماً لها وتوقيعاً على بروتوكولاتها التي تفتح الباب على تجريم ومحاكمة الاحتلال وتحصين القدس من تبعات القرار الأمريكي.
إن الفعل الميداني لأهلنا في القدس والضفة تحديداً هو القادر على الضغط المباشر على الاحتلال وحليفه الأمريكي، كما تملك السلطة الفلسطينية – على ضعفها – أوراقاً سياسية لا يمكن الاستهانة بها.
إن الأمر لا يتعلق بمناورات كلامية أو خطب بلاغية – لا يحسنها القوم على أي حال – وإنما إلى خطوات عملية على عدة مستويات: رفع العقوبات عن قطاع غزة، تفعيل مسار المصالحة الفلسطينية الداخلية، تخفيف القبضة الأمنية عن الضفة المحتلة، جمع الكل الفلسطيني لتقييم الموقف وتخطيط المقبل، وتفعيل المسار القانوني والسياسي الدولي بلا تأخير.
على القيادة الفلسطينية أن تكون قيادة بحق بحيث لا ترى في القدس طوقاً لنجاتها وفرصة لتجديد مشروعيتها المتآكلة بل قضية ينبغي الدفاع عننها بكل ما أمكن، إخلاصاً ووطنية كما ينبغي أو ذكاءً وبراغماتية على الأقل، وإلا فعليها أن تتنحى وتترك المجال للشعب وقواه وتياراته ونخبه وشبابه القادرين على تصحيح البوصلة ومراكمة العمل النضالي من أجل القدس والقضية.
لم يقل غسان كنفاني إن الدفاع الفاشل عن القضية ينبغي أن يدفع إلى تغيير الوسيط، بل إلى تغيير المدافع عن القضية إذا لم يحسن الدفاع أو لم يرد فعل ذلك. وهذا هو المطلوب لمن ما زال دون مستوى الحدث والقضية، بسبب عدم رغبته أو عدم قدرته أو الاثنين معاً، وإلا فسيكون أحد أهداف هبة/انتفاضة الشعب إلى جانب الاحتلال في أي حين.