لماذا كوباني؟

السؤال الوجيه وشبه الوحيد الذي سيطر على المشهد السياسي والإعلامي التركي منذ لحظة إعلان تأسيس التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والذي تململ طويلاً وراء الكواليس وبين سطور المقالات وفي الجلسات المغلقة، ثم ما لبث أن وجد طريقه للعلن على لسان معظم السياسيين الأتراك وآخرهم الرئيس اردوغان هو: لماذا كوباني؟!!!

لماذا كوباني هي التي تحوز على الاهتمام السياسي والإعلامي الغربي؟ ولماذا تـُمارس كل هذه الضغوط على تركيا للتدخل فيها براً تحت تهديد التلويح ببطاقة دعم الإرهاب إن لم تفعل؟

لماذا كوباني وفقط وليس سوريا ككل بعد أكثر من 3 سنوات ونصف من الثورة وأكثر من 300 ألف شهيد؟ ولماذا تنظيم الدولة في كوباني فقط وليس العراق، حيث يربض أفراده على بعد 20 كيلومتراً فقط من بغداد؟

المفارقة الطريفة وذات الدلالة أن الاسم الكردي الرمزي للمدينة (كوباني) طغى على اسمها الرسمي (عين العرب) في وسائل الإعلام وفي تصريحات السياسيين وكأنه نوع من التعاطف والدعم للقوات الكردية المحاربة هناك، في مفارقة لا تقل طرافة عن تسمية مدينة أغلب سكانها من الأكراد بـ “عين العرب”.

قد لا يكون من الوجاهة التساؤل عن مدى أهمية المدينة بالنسبة لأكراد سوريا وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي، فهي إحدى ثلاث “كانتونات” أعلن الحزب على مداها الجغرافي – الذي تتوسطه كوباني – إدارة ذاتية بقرار منفرد في كانون الثاني الماضي واضعاً لبنة متينة ومبدئية في مشروع الدولة/الانفصال، وخسارتها تعني تلاشي الحلم أو على الأقل تعقيد الأمور.

وقد لا يكون من الذكاء طرح السؤال من الناحية التركية، فكوباني (أو عين العرب) تقع على الحدود التركية السورية مباشرة، وفي حال سيطرة تنظيم الدولة عليها سيكون معبر “مرشد بينار” رابع معبر حدودي بين الدولتين يسيطر عليه، الأمر الذي يعني أن نفوذه سيمتد على رقعة كبيرة وطويلة جداً من الحدود التركية ويجعله في مواجهة مباشرة – ساخنة أو باردة – مع الجار التركي، الأمر الذي يفتح الحدود والداخل التركي على احتمالات لا حصر لها، وهو آخر ما يريده صانع القرار في أنقرة.

كل هذا مفهوم وطبيعي في سياقه الجغرافي والسياسي بل والعسكري، ولكن لماذا تكون مدينة عين العرب بهذه الحساسية والأهمية للغرب أو لنقل للولايات المتحدة الأمريكية وهي تبعد عنها آلاف الكيلومترات ولا وزن لها استراتيجياً في الصراع الدائر؟ لماذا كل هذا التحذير من سقوطها بيد التنظيم وهزيمة المجموعات الكردية هناك، حتى بعد تصريح وزير الخارجية الأمريكي الواضح بأنها يمكن أن تسقط وأنها ليست أولوية للتحالف ولا خطورة استراتيجية قد تأتي من خسارتها؟؟؟

تحملنا هذه التساؤلات، في إطار التوازنات الجغرافية والسياسية والخريطة الاستراتيجية، إلى أحد الاحتمالات التالية:

الأول، أن يكون الأمر صرفاً للأنظار نحو كوباني في أقصى شرق سوريا، بينما يجري التحضير لترتيبات أخرى في أماكن متفرقة من سوريا والعراق، ويدعم هذا الاحتمال عدم إمكانية تخيل أن يكون تحالف دولي قد أسس من عشرات الدول فقط لوقف تنظيم محلي مهما بلغت قوته على الأرض.

الثاني، أن يكون الأمر جزءاً من صفقة مع أكراد سوريا، تحديداً حزب الاتحاد الديمقراطي و”قوات الحماية” التابعة له، ضماناً لتعاونهم وانضوائهم تحت لواء التحالف. ذلك أن الاستراتيجية الأمريكية – إن جازت تسميتها بذلك – تتضمن وجود قوات برية مساندة لعجز القصف الجوي عن تحقيق الأهداف المرجوة من وراء الحملة، ومع تأكيد الولايات المتحدة على عدم نيتها زج قواتها البرية في المعركة يجري البحث منذ البدء عن “قوى محلية” أو ميدانية يمكنها إنجاز المهمة.

وفي ضوء تحفظ تركيا وتمنعها عن الدخول دون تحقيق شروطها، وعدم جاهزية فصائل الثورة السورية الأخرى أو رفضها من قبل الامريكان (وفق تصنيف الاعتدال)، يبرز الأكراد في كل من سوريا والعراق (البشمركة) كطرف محلي عنده الاستعداد المبدئي كموقف والجاهزية التقنية كإمكانية والخبرة الميدانية للقيام بالمهمة. ويمكن، في هذه الحالة، أن يكون الدعم الغربي الكبير والتركيز المكثف على كوباني جزءاً من الثمن المقدم للقوات الكردية في سوريا بين يدي هذا الاستعداد.

الثالث، قد يكون الدعم الأمريكية اللامحدود غير مرتبط بحدث آني وهو معركة عين العرب، بل خيار استراتيجي يتعلق بدعم تأسيس دولة كردية في المنطقة، بما يعني إنشاء حليف جديد مستدام للولايات المتحدة الأمريكية، وبما يدعم فكرة إعادة صياغة المنطقة جغرافياً وسياسياً (سايكس – بيكو جديد)، وبما يشمل وضع حد أو عائق أمام مسيرة تركيا ونهضتها بعد أن اتخذت منحى يبتعد عن الرؤية الأمريكية نحو شيء من الاستقلالية النسبية أو الجزئية.

وبكل الأحوال، يبدو أن التركيز الغربي على كوباني وغض الطرف عن مجمل المشهد السياسي والميداني في كل من سوريا والعراق يذكي الهواجس التركية بخصوص النوايا الغربية غير المعلنة أو النتائج المترتبة على التدخل العسكري وفق النظرة الحالية على المدى البعيد. فتركيا، كدولة حدودية مع العراق وسوريا، وكحكومة لشعب مسلم يوجد من بينه من يتعاطف مع ظاهرة تنظيم الدولة، وكقوة إقليمية ذات مصالح، تختلف حساباتها عن حسابات الدول الغربية فيما يتعلق بالمنطقة حاضراً ومستقبلاً.

لا يمكن التقليل أبداً من شأن الأكراد كأحد المكونات الرئيسة لشعوب ودول المنطقة، كما إن الدم واحد  ومتساو بين الجميع، ولا مفاضلة بين دم ودم، ولا وجاهة لحديث عن الأرقام إلا من باب الاستدلال، لكن الموضوعَ هنا أمام علامات الاستفهام هو الرؤية الغربية الأحادية والمستهجنة، والتي وصلت إلى حد التطابق مع عدوها المفترض (إيران) والتناقض مع حليفها الإقليمي (تركيا) وإمكانية التعاون مع سبب الأزمة الرئيس (نظام الأسد)، وبالتالي يصبح السؤال المطروح “لماذا كوباني” مشروعاً، بل ربما واجباً.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

معركة في ظلال معركة

المقالة التالية

هل أسدَلت الانتخابات النيابية الستار على الثورة التونسية؟

المنشورات ذات الصلة