شغلت وسائل الإعلام على مدى أيام طويلة بخبر قرار بوتين سحب قواته من سوريا، وانعكاس ذلك على الوضع الميداني في سوريا، وعلى موقف النظام السياسي، وعلى مفاوضات جنيف، فضلاً عن تأثير ذلك على عدة أطراف خارجية في مقدمتها تركيا، التي اعتبر الكثيرون أنها أمام فرصة ذهبية لاستثمار “الانسحاب الروسي” من سوريا للتدخل المباشر وفرض “المنطقة الآمنة” التي تنادي بها بشكل فردي، أو لتغليب كفة المنعارضة على النظام في الجبهة الشمالية تحديداً.
ينبغي الإشارة في البدء إلى أن “الانسحاب الروسي” قد أخذ أكثر من حقه في التقييم لدى الكثيرين، فكان الاهتمام بالعنوان اللافت أكثر من المضمون والحقائق والتفاصيل. فقد أثبتت التصريحات الروسية اللاحقة وجهة النظر التي قالت منذ البداية إن انسحاباً روسياً كاملاً أو ناجزاً ليس شيئاً منطقياً، وإن تخلي روسيا عن النظام نهائياً غير ممكن واقعياً، وإن غاية ما يمكن أن تقوم به روسيا فعلياً هو انسحاب جزئي أو إعادة انتشار تحفظ لها المصالح التي جاءت من أجلها لكن – من ناحية أخرى – تخفف من فاتورة بقاء قواتها في سوريا، وتحقق لها بعض المكاسب التي ابتغتها من الإعلان عن الانسحاب في هذا التوقيت بالضبط.
لكن، كيف تنظر تركيا نفسها للقرار الروسي وانعكاساته على الأرض؟ وهل تنوي استثماره على الوجه الأمثل؟
بالنسبة لتركيا، فقد ضيق التدخل الروسي المباشر في سوريا منذ أيلول/سبتمبر الفائت من هامش مناورتها وأضر بمصالحها هناك بالغ الضرر، وبالتالي فمن الطبيعي توقع سرورها بالخطوة الروسية ومحاولة الاستفادة منها. بيد أن هذا التدخل لم يكن العامل الوحيد الذي شكل الموقف التركي وحد من خياراته، بدليل أن العديد من المراقبين يعتبرون أنقرة قد تأخرت باتخاذ قرار ما بالتدخل – بغض النظر عن مدى ومستواه – في سوريا عدة مرات، قبل التدخل الإيراني وقبل ظهور تنظيم الدولة وغير ذلك، وهو ما يعني أن الانسحاب الروسي – حتى لو صح – لن يعني بالضرورة تدخلاً تركياً وشيكاً.
تجدر الإشارة، في هذا السياق، إلا أن تركيا العدالة والتنمية ما زالت على المستوى النظري تتورع عن التدخلات المباشرة في النزاعات وتخشى على المستوى العملي من المواجهات ذات الطابع العرقي و/أو المذهبي، وتحتاج أول ما تحتاج قبل اتخاذ أي قرار بالمبادرة إلى غطاء دولي (قرار من الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي) و/أو مشاركة جماعية (التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة أو الناتو أو التحالف الإسلامي)، وهما أمران ما زالا صعبي المنال وفق المعطيات الحالية.
من ناحية أخرى، فإن صانع القرار التركي ينظر بعين الريبة لكثير من القرارات والتحركات في المنطقة ويراها محض محاولات لتوريطه في نزاعات لا يريدها في المنطقة، وهو أمر تردد مرات ومرات على ألسنة غير مسؤول تركي. وقد لا يختلف التقييم التركي للقرار الروسي الأخير عن هذا السياق. فرئيس الوزراء داود أوغلو رأى – في حديث له مع بعض الصحافيين خلال طريق العودة من بروكسل قبل أيام – أن “البعض يحاول رسم سايكس – بيكو جديدة في المنطقة بعد 100 سنة من توقيعها”، وبعد أن حاولت تركيا على مدى سنوات ما قبل الربيع العربي على إلغائها بالشراكات التجارية والعلاقات الاقتصادية والتواصل الثقافي.
أما في موضوع الانسحاب الروسي، فاعتبر مهندس السياسة الخارجية التركية أن الاعتقاد بأن روسيا “قد انسحبت” بشكل كامل من سوريا غير دقيق ولا واقعي. وقال: “هم لم ينسحبوا بشكل ناجز، لكنهم يعتقدون أنهم قد حققوا الأهداف التي أتوا من أجلها”، وذكر من بين هذه الأهداف حماية قاعدتهم في اللاذقية وميناء طرطوس، وضمان جلوس الأسد إلى طاولة التفاوض من موقع القوة، وإضعاف المعارضة، وهو الهدف (إضعاف المعارضة) الذي بذلوا فيه جهداً كبيراً لكنهم رأوا أنهم لن ينجحوا فيه. ولذلك – يستدرك ويستنتج الرجل – فإن الحديث عن انسحاب روسي، مع بقاء القواعد العسكرية والصواريخ والقصف، غير صحيح ولا واقعي.
وإذن، فتركيا ترى أن روسيا ما زالت متواجدة في سوريا – بغض النظر عن عددها وعتادها – وهو ما يعني أن شيئاً كثيراً لم يتغير على مستوى القرار التركي إزاء سوريا، وأن حسابات المواجهة المحتملة وموقف الولايات المتحدة والناتو وغيرها من الاعتبارات الاستراتيجية ما زالت قائمة.
لكن، هل يعني ذلك أن أنقرة قد تخلت كلياً ونهائياً عن رؤيتها ومصالحها في سوريا؟
لا، ليس تماماً. إذ تعمل أنقرة على محورين:
الأول، الاستمرار في محاولة إقناع حلفائها بضرورة المنطقة الآمنة في شمال سوريا، وتسوق أمام ذلك ذريعتين: الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها واتضح أن جزءاً مهماً منها مصدره الشمال السوري حيث يتدرب الانتحاريون على يد قوات حماية الشعب الكردية أو تنظيم الدولة – داعش، وموجات تدفق اللاجئين التي لن تتوقف عن الزحف نحو أوروبا إلا إن توفرت لها بيئة آمنة في بلدها، وهو ما استطاعت تركيا – بعد عناء كبير ووقت طويل – من تحقيق تقدم جزئي فيه إذ تضمن اتفاقها الأخير مع الاتحاد الأوروبي بخصوص اللاجئين صيغة ضرورة وجود “مساحات آمنة” للاجئين داخل سوريا.
الثاني، محاولة اللعب على وتر الخلافات الروسية – الإيرانية وتراجع الحضور الإيراني أمام التفرد الروسي بقرار النظام، من خلال زيادة وتيرة التواصل مع إيران باعتبارهما دولتين إقليميتين يهمهما استقرار الأوضاع في سوريا والمنطقة لسد الباب أمام التدخلات الخارجية التي لن تكون في مصلحة المنطقة ولا مصلحتيهما، إضافة إلى التحذير من المشروع السياسي الكردي في شمال سوريا باعتباره خطراً استراتيجياً على كليهما، ومن هنا يمكن تفسير زيارة داود أوغلو المفاجئة إلى طهران وزيارة جواد ظريف البارحة إلى أنقرة، إضافة طبعاً للعامل الاقتصادي المهم للطرفين.
في المحصلة، ترى تركيا أن الوضع السوري أشد تعقيداً من الخوض في مغامرات سريعة وغير محسوبة، وتفضل بدل ذلك اللعب الهادئ طويل المدى لتجنب التورط ومحاولة كسب النقاط، على مستوى المشروع الكردي وعلى مستوى دعم المعارضة السورية وعلى مستوى المنطقة الآمنة، وترى في وقف إطلاق النار الحالي والمفاوضات الجارية والانسحاب الروسي الجزئي التكتيكي نقاطاً تفيدها في هذا المسار الطويل.