في كرة القدم، هناك “مدارس” كروية راسخة، مثل البرازيل وألمانيا وهولندا والأرجنتين وانكلترا، تجدها دائماً حاضرة في المناسبات الكروية العالمية، من مسابقات إقليمية وقارية إلى كأس العالم وغيرها، وحتى لو مرت بها فترة من الركود أو التراجع، فإنها سرعان ما تعود للواجهة بفضل ما تمتلكه من موارد بشرية وبنية تحتية وتجربة واسعة.
وإلى جانب هذه المنتخبات العريقة، هناك منتخبات تبقى على الهامش دائماً، بلا إنجازات ولا حتى مجرد تمثيل مشرف، بل ولا وصول للنهائيات، بينما سنجد بعض الفرق التي تقفز قفزات كبيرة في إحدى المسابقات، فتصل ربما للمركز الثالث أو الرابع في كأس العالم مثلاً، وتسمى حينها “حصان البطولة الأسود”. فعلت ذلك بلغاريا عام 1994، وكرواتيا عام 1998، وتركيا عام 2002. وحين نبحث في الأسباب والسياقات التي ساهمت في هذه “الطفرة” سنجد أنها تعتمد على جيل موهوب من اللاعبين اجتمعوا تحت قيادة مدرب متميز في فترة تراجع بعض “الكبار”، إضافة لأسباب لوجستية أخرى. لكن هذه القفزات (كلها) كانت في الهواء ولم تستطع أي من هذه المنتخبات الاستمرار في البقاء ضمن الكبار، بل لم يستطع بعضها التأهل للمونديال الذي تلى ذلك الإنجاز.
وفي عالم السياسة وإدارة الدول، سنجد شيئاً مشابهاً لهذا. سنجد دولاً تخطت الكثير من العقبات في مسيرتها الديمقراطية والتنموية التي رسخت أخيراً بعد قرون من الزمن وملايين الضحايا، وسنجد على هامشها عالماً ثالثاً لا يسمن ولا يغني من تخلف حضاري، وسنجد بعض “التجارب” التي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً بين الكبار. ولعل تركيا في مقدمة هذه التجارب التي تستحق البحث والدراسة والتقييم، على مستوى العالم الإسلامي وفي محيطنا الجغرافي.
قدمت تركيا للغرب نموذجاً يؤكد إمكانية تعايش بل وتفاهم الإسلام مع الديمقراطية، وقدمت للعالم العربي-الإسلامي نموذجاً من حسن الإدارة والتنمية الاقتصادية، وبدأت تنحى مؤخراً نحو الاستقلالية في السياسة الخارجية، مما أغضب بعض حلفائها ومادحيها السابقين.
ولربما ضاقت مساحة هذا المقال (وأي مقال) عن تناول أسباب وسياقات وعوامل هذا النجاح التركي في سنوات حكم العدالة والتنمية، فذلك يحتاج لكتب ودراسات، ولكننا لو أردنا الاختصار السريع غير المخل بالمضمون، سنرى أن هناك محاربة للفساد، واستقراراً سياسياً، وتنمية اقتصادية، ومجتمعاً مدنياً نشطاً، وحكماً محلياً منجزاً، إضافة لعوامل أخرى كثيرة، تجمعت – بنفس الطريقة – لجيل متميز وقائد فذ.
وليس هذا محاباة أو مدحاً لشخص اردوغان، لكنه فعلاً قائد متميز يملك الرؤية، والكاريزما، والمهارات القيادية، والتجربة النضالية التاريخية (السجن)، والخلفية الإدارية الناجحة (كرئيس بلدية)، إضافة إلى حسن توظيف الكفاءات وتعيين الشخص المناسب في المكان المناسب.
لكن ما يهمنا هنا، هو أن لا تبقى قصة النجاح هذه في نطاق “التجربة” لتترسخ وتتحول إلى “مدرسة”، تستمر في النجاح بل وتلهم وتقود تجارب أخرى، حتى بعد تغير الوجوه القديمة من قيادات العمل والمسيرة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء اردوغان. ولربما تكون الكلمة المفتاحية الأولى في هذا التحول هي “المؤسسية”.
وليس هذا انتقاصاً من العمل المؤسسي في التجربة التركية، فذلك أحد أهم خصائصها المميزة لها، لكنها تحتاج للترسيخ والتثبيت أكثر وأعمق من هذا. نقول هذا في ظل الدعوات المتكررة لبقاء اردوغان رئيساً للحزب والحكومة خوفاً من فشل التجربة بعده، بشكل أوحى لبعض المتابعين من الخارج وغير الملمين بتفاصيل المشهد التركي أن غياب اردوغان عن القيادة التنفيذية يهدد التجربة برمتها بالفشل والتراجع. هذا الأمر رفضته – بالمناسبة – هيئات الحزب القيادية، وهذه إشارة من ضمن إشارات أخرى إلى الثقة بالمشروع والمجموع.
يقولون دائماً أن الاستمرار في النجاح أصعب من النجاح نفسه، وهذا صحيح. وتقول الدراسات الإدارية أن %68 من “الشركات العائلية” تفشل في الاستمرار وتتجزأ وتتشتت إلى شركات أصغر وأقل نجاحاً في الجيل الثاني (بعد وفاة الوالد/المؤسس). ولذلك، فإن أهم أسباب الاستمرار في نجاح التجربة التركية هو صناعة القيادة البديلة والرديفة وتجديد الدماء الشابة في عروق الحزب والحكومة ومؤسسات الدولة، تحت عين القيادات المؤسسة وبتوجيهها الإشرافي وخبرتها العريضة.
إن 12 عاماً من النجاح في بلادنا التي عانت التخلف والتراجع الحضاري لأكثر من قرن من الزمان ليست فترة طويلة ولا تكاد تصل شيئاً في حياة الشعوب، وهي غير كافية للاطمئنان بأن العجلة تدور في الطريق الصحيح، فلا زلنا بحاجة لبذل الكثير من الجهود لتثبيت وإثبات ذلك.
ما زال أمام تركيا الكثير من الملفات للإنجاز، في مجال الإصلاحات الديمقراطية، وفي مجال الأقليات، وفي مجال محاربة الدولة العميقة، وفي مجال التنمية الاقتصادية والاستقلالية التامة في القرار السياسي، وقد رأينا كيف عانت تركيا من بعض هذه الملفات في الفترة الأخيرة.
نقول ذلك وكلنا ثقة أن المشروع يستطيع تخطي العقبة الحالية واجتراح الإنجاز والاستمرار به، ولا يكون ذلك إلا باستدامة الفكر والتخطيط والعمل بشكل مؤسسي يتجاوز الأشخاص ليخدم الفكرة، وتركيا (والعدالة والتنمية بالضرورة) لا تنقصها الأدمغة ولا الكفاءات ولا القيادات، بما يحولها من حصان أسود غير متوقع النجاح إلى حصان أبيض أصيل يتقدم مضامير السباق.